الأحد، 28 يناير 2024

الموت بانعدام الأصالة

 تستدرجنا قصة "موت إيفان إيليتش" لتكون نموذج جيدًا لعرض بعض الأفكار الرئيسة في كتاب "الكينونة والزمان" لـ هايدجر. ولكن هذا ليس دقيقًا، بالاحري يدين هايدجر باستلهامه إلى تولستوي، دينٌ لم يوفّي حتى بإشارة هامشية في كتاب "الكينونة والزمان" إلى قصة "موت إيفان تيليش". تناول تولستوي في قصة "موت إيفان إيليتش" ظاهرة الاضطراب والتداعى نتيجة "موت أحدهم" (298/254).


يقول والتر كوفمان: فكرة الموت عند هايدجر في مجملها شرحٌ لقصة "موت إيفان إيليتش" (355).

لكن لم يوثق كوفمان هذا الادعاء بدليل سياقي من قصة تولستوي. عارض روبرت برناسكوني هذا حيث جادل أنه" لا يمكن مماثلة هايدجر وتولستوي على الأقل ليس على أساس القراءة البسيطة والانتقائية للغاية التي قدمها كوفمان (14- 15). فهذا روائي والأخر فيلسوف فكلاهما  يقومان بأشياء مختلفة جدًا. ورغم دين هايدجر إلى تولستوي فهو أكثر بكثير من مجرد تقديم شرح على القصة. ورغم ذلك فالكثير مما قدمة هايدجر عن الموت يبدو أنه مُستلهمٌ من تولستوي.


قدمَ آلان برات في "ملحوظة على تحليل الموت عند هيدجر" ربطًا سياقيًا الذي تجاهلهٌ كوفمان، حيث أنصب تركيزه على الموت، ورغم ذلك، فقد أغفل عناصرًا من القصة التى تكشف أكثر عن ما يدين به هيدجر به إلي سرد وتصور تولستوي للأصالة وعدم الأصالة (297- 304). فلا يمكن إقرار ذلك من خلال دليل لغوى أو سيرة ذاتية، ولكن من خلال التأويل الذي نقدمه للقصة نقيمُ دليلًا بذاته. 





                                                       (1)



لا يعتقد هايدجر أن هناك طبيعة بشرية أو جوهرٌ قبليًا، ولكن، كما يقول فإن جوهر الديزان (الحضور) يمكن كينونته. (Zu-sein) (67/42). فإننا نكون أنفسنا من خلال الاختيارات التى نتخذها. مفهوم هايدجر للأصالة من الصعب للغاية تعريفهُ أو اختزاله، ولكن يمكن أن نأخذ شرح تشارلز جينيون كنقطة انطلاق لنا " الحياة الأصيلة هي التي تعاش كتدفق موحد يتسم بالتراكم والإدارة"  (الأصالة، القيم الأخلاقية، 229). وبذلك فالأصالة هي تختص بكيفية عيش المرء حياته، وليس ما يكونه المرء (“أصالة هيدجر” 334)، فيملك الفرد الأصيل كينونته، فيأخذ على عاتقه مسؤوليتها بوصفها شيئًا يشكّلهُ ويؤسسه. 


ولا ليست الأصالة أمرًا خاصًا بفحوى الحياة، بقدر ما هي أسلوبًا من خلاله يعيش المرء. يبدوا أن التمايز بين الأصالة وعدم الأصالة لا يتعلق بما يكونهُ المرء (الماهية - المترجم) بمفهوم الإمكانيات التي يتخذها، ولكن بالطريقة التي يعيش بها (الأصالة عند هايدجر، 334). 


فلا يوجد فرد أصيل أو منعدم الأصالة بالكلية، ولكن هناك حالة (mode) أو آخري ترجحُ كفتها في السيطرة والسيادة. وكما يصف هايدجر أننا في حياتنا اليومية نميل إلى السقوط في النفس الجماعية “they-self” (das Man). فنحن نفقد أنفسنا في الهوية الجماعية وهذر الجموع الفارغ من المعنى. فنصبح مجرد أفرادًا وسط الآخرين، وبالتالي نتبنى الآراء الشائعة والمقبولة إجتماعيًا المتعلقة بالأحداث الجارية، مما يجعلنا مستغرقين في مشكلات وأحاديث تبعدنا عن فردانيتنا، حينها يكون الغالب علينا عدم الأصالة. 


كان إيفان إيليش غير أصيلًا حتى أحاط بدائهِ. إيفان رجل بارع على عدة مستويات، ولكن لم يكن هناك شيئًا استثنائًيا. "في الواقع، حياة إيفان هي الأكثر بساطة وإعتيادية، والأكثر رعبًا(49)". فقد كان الابن الاوسط لموظف حكوميًا، ولم يكن متكلسًا مثل أخيه الأكبر أومتهورًا كالأصغر، راضيًا في توسطهِ بين الأثنين. ذكيًا ومفعمًا بالحيوية والمرح. وتشكلت شخصية إيفان في الجامعة:

 

"كطالب في كلية القانون، فالذي سيكون عليه سيستمر معه بقية حياته، رجل كفؤ ودمس واجتماعي، ولكن سرعان ما يتحمل مسؤولية المهام التي يُلزم بها نفسه، وقد ألزم نفسه بكل الأشياء التى حددها المسؤولون في السلطة (50)".


تأكد إيفان من امتلاكه كافة المظاهر المناسبة للمنصب الذي تقلده بعد إنهاء دراسته في كلية القانون، الملابس المناسبة والياقات البيضاء وأدوات الحلاقة وغيرها. وبدلًا من أن يشكّل حياته بفاعلية، فإنه اكتفى بلعب الدور الذي أُعطي إليه. في عمله كان صموتً ومتجهمًا، بينما كان في اللعب لطيفًا و خفيف الظل. حظي بفترة شباب مرحة، ولكن بطريقة متحفظة ومناسبة "بأيادِ وملابس نظيفة وعبارات فرنسية، والأهم هو أنها وسط زبدة المجتمع، بالتالى بطريقة مقبولة في الأوساط العليا" (52). سقط إيفان بسهولة وطواعية ليلعب دورًا في النفس الجماعية للآخرين they-self. في المجمل لم يكن أصيلًا في طريقة وجوده mode of being. افتقر إيفان  إلى التأمل الذاتى و الشعور بالرغبة، فهو ببساطة ينشغل بإدامة الواقع كما هو ومحاولة التأقلم فيه. 


تسلق إيفان سلم النجاح البيروقراطي، وفي قرية ووظيفة جديدة قابل إيفان براسكوفيا فيودوروفنا زوجته المستقبلية، كانت جذابة وعائلتها صالحة ولديها القليل من المال. و بزواجه حصل إيفان على السعادة ومباركة معارفه من الطبقات العليا، فامتزج في الآخرون أكثر. وكان كل شئ على ما يرام مع زوجته، ولكن تبدلت الأمور في الشهور الأولي من أول حمل لها، فأصبحت غيورة، تطلب الكثير، وتبحث عن المشاكل. ربما لم يكن إيفان حكيما في الأختيار كان يجب عليه أن يفكر مليًا. أدرك إيفان أن الحياة الزوجية لم تفض إلي إلى السعادة التي طمحَ إليها، فألقى بنفسه في أحضان المزيد من العمل. لم ينزعج من تلك الحالة الزوجية، بل تقبلها كما يتقبل بقية الأشياء بوصفها الطريقة التى توجد عليها الأشياء.


"طمح في حياة زوجية لتُيسر له سُبلاً للراحة، طعامٌ في المنزل ومنزل يُدار بشكل جيد، شريكة في سريره، وفوق ذلك فالزواج مظهر أحترام يطلبه الرأي العام 58". 


استمر إيفان في تسلقهِ، فحصل على منصبِ جديد وانتقل هو وأسرته إلى مدينة جديدة. كان العمل هو كل شئ بالنسبة إليه، وعلى هذا الحال عاش سبعة أعوام آخري. 


يأخذنا هذا للنظر في فينومينولوجيا هايدجر. الديزاين جزء من وجوده-في-العالم  Being-in-the -world هي حالة وجدانية state-of-mind فهو الأساس الذي يبنى عليه الديزاين أهمية العالم. وتفيدنا الألمانية هنا أن الحالة الوجدانية state-of-mind هي حالة من التوجه يجد فيها المرء نفسه. يجد الإنسان نفسهُ في حالة وجدانية معينة، ويعنى هذا أننا نجد أنفسنا في حالة- وجدانية معينة يمكن أن نغيرها ببذل بعض المجهود. المزاج mood هو الطريقة الأساسية التي تكشف فيها الحالة الوجدانية state-of-mind عن نفسها، فغالبا ما نجد أنفسنا في حالة مزاجية معينة مع تفسيرات قليلة عن السبب. والمزاج mood الذي يدلل على محاولاتنا في الهروب من الموت هو ما يسميه هايدجر القلق Angst.وبينما الخوف له باعث، فالقلق Angst ليس له باعث محدد. يكشف القلق أن الديزاين لديه قدر من الإحساس بعدم وجود أساس لوجوده. ويقول هايدجر: الوجود -السائر- نحو- الموت بالضرورة قلقًا(310/265–266). واخترت هنا وفي بقية النص الكلمة الألمانية Angst القلق بدلا من الانجليزية Anxiety التوتر، ويمكن أن تستخدم كلمة Dread والتى تعنى الوجل للترجمة معنى Angst. 


توقع إيفان أن يصبح قاضيًا ولكن هذا لم يحدث. ويبدو أنه عاش حياة لا تتناسب مع راتبه فلم يستطع تدبير احتياجاته الاساسية براتبه، والذى كان راتبٌ جيدًا. وبعد انتقال الأسرة إلى البلدة الجديدة في فصل الصيف، اختبر إيفان لأول مرة المشاعر السلبية بشكل واضح. لم يسبب موت اطفاله كأبة شديدة له، ولكنه كان يمكن أن يضيع لولا إلهاء نفسه بالعمل. "في بلدة جديدة، ولا شئ يمكن فعله، إيفان إيليش يختبر لأول مرة في حياته ليس فقط الملل بل كرب لا يحتمل  (62)". حرمهُ انغماسه في الحياة اليومية في نفس-الآخرين they-self من اختبار الشعور بالقلق، وهو شعور بعدم الألفة والغربة وأنه ليس- في -المنزل والذي يشير  إلي أن المرء أدرك فنائه. لم يواجه إيفان قلقه، رغم وجوده في لُبهِ. كانت حياة إيفان متردية falling بمصطلح هايدجروصفًا الحياة الغير أصيلة، تائه في نفس- الأخرين:

التردي هو هروب الوجود السائر نحو الموت Being-towards-death من مواجهة الموت. ويتصف الوجود السائر نحو النهاية بأسلوب المراوغة في مواجهة الموت، بإضافة تفسيرات جديدة له، وفهمهُ بطريقة غير أصيلة.                 

لا يشير القلق إلى شيء جديد في طريقة حياته، بل إلي اقترابه من إدراكه أن حقيقة حياته غير أصيله حتى أصبح ذلك جليًا.


يُلقي بالديزاين في العالم مع سمات معينة ثابتة وراسخة، ولكن الديزاين يسقط و يتردى أيضًا. وتوصيف الوجود الغير أصيل بالسقوط والتردي مهمًا في تحليلنا لذهاب إيفان إلى سان بطرسبرغ وفي ذهنه إيجاد مكان كُلفتهُ خمسة آلاف روبية. استطاع إيفان إيجاد مكان أفضل مما كان في ذهنه صدفة، مما حسن من حالته المزاجية لبعض الوقت. فقد وجد شقة جيدة في المدينة الجديدة، وشرع في تجهيزها بنفسه. استحوذت عليه مهمة تجهيز المنزل حتى أصبح حتى مشتتًا في عمله. 

وقع حدثًا رئيسًا لإيفان أثناء العمل على تجهيز المنزل: فبينما يصعد على السلم المتنقل ليعلق بعض الستائر أخطأ في صعوده فسقط. وقع إيفان على خاصرته، لكن لم يعبأ كثيرًا لهذا، فقد آلمته الكدمة لمدة قصيرة واختفى الالم بعدها. تندر إيفان بطريقة ساخرة بعد ذلك على تلك السقطة، فقد كان فخورًا بما فعل من تجهيزات، ولكن الحقيقة أنها كانت عاديه:

"في الواقع كانت تجهيزات تماثل كل الأشخاص الذين لم يكونوا أغنياء، ولكنهم يُردون أن يتشبهوا بهم، وفي نهاية المطاف لا يصبحون سوي شبه بعضهم البعض….تشابهت شقة إيفان مع الآخرين لدرجة أنها لا تلاحظ، على الرغم من أنها بدت له استثنائية (66). 


رضي إيفان بحياته لفترة، فكانت حياته اليومية تسير في تناغم مع الآخرين the they "يستيقظ في التاسعة صباحًا، يتناول قهوته، ثم يقرأ الجريدة، ويرتدي زيهُ ثم يذهب إلى المحكمة" (68). فقد وجد أن عمله لم يكن مملًا ولا ممتعًا، فهو يقرأ كتاب يتحدث عما يدور، يُشغل نفسه ببعض العمل في الليل ليتجنب زوجته وأطفاله. أقام حفلات عشاء فوق مقدرته المالية بقليل، محاولًا الترفيه عن نفسه مثل ميسوري الحال، ودائما ما كان حريصًا أن يقدم شيئًا جيد. أعتقد أن مثل تلك الحفلات شيئًا استثنائيًا ولكن في الواقع كانت عادية تمامًا. يستمد إيفان السعادة من الغطرسة والعلاقات الاجتماعية من تلك الحفلات، ولكنه وجد سعادة غامرة في لعبة ورق بسيطة.      

  

سقط  falling إيفان وفق ما ذهب إليه هايدجر، سقوطًا كاملًا في عدم الأصالة أكثر من أي وقت مضى، هو ذلك المعنى الحرفي للكلمة الذي أدي به إلي تلك الحالة الجسدية أو هكذا أعتقد هو. فلا يستطيع الطبيب أن يحدد ما هي مشكلته بالتحديد، ولكننا نتسائل إذا ما كان إنعدام الأصالة يقتله!. ربما كان مرضه والذي أدي إلي موته نتيجة لمرض نفسانى نفسي جسدي. أشار إيفان إلي تلك الاحتمالية عندما كان يفكر مع نفسه وقال: هل يمكن أن يكون ذلك حقيقًا أننى هنا وفي تلك الملابس، وفي غمار أقتحام الحصون، هل فقدت حياتى؟ كم هو مريعًا وغبيًا ذلك الأمر، لا يمكن أن يكون ذلك! لا يمكن! (97). ووصف الحياة بـ"سلسلة من تصاعد المعاناة، السقوط بشكل سريع، وسرعة أكبر تجاه النهاية وهي المعاناة الأكثر رعبًا. "انا اسقط" (123). ورغم إدراكه أن حياته الساقطة كانت سلسلة من المعاناة المتصاعدة، فإنه لم يكن قادرًا على تقبل أنه لم يعش حياته بأفضل طريقة ممكنة:

لو أنني فقط أعرف سبب هذا الألم، ولكن ذلك مستحيل. ربما من المعقول أن يقول أحدهم أنه لم يعش كما يجب، ولكن مثل ذلك الإعتراف مستحيلًا، فإنه يقولها بينه وبين نفسه، يتذكر كيف كانت حياته خاضعة لكافة القوانين والقواعد والتقاليد. (123- 124)


لا يستطيع إيفان مواجهة نفسه لعدم قدرته على نقد "الآخرين" they- self فهو لا يمايز بين نفسه و

نفس الآخرين they- self. وبدلًا من مواجهة حقيقة أن حياته كانت مجرد فوضى غير أصيلة وأنه الآن يعانى من الألم النفسي وآثاره الجسمانية، فبدلًا من ذلك فإنه رأى أن كل شئ بلا جدوي وغير معقول "ليس هناك تفسيرًا، لا يوجد سوى الألم.والموت، ولماذا؟ (124)". فالقلق الذي شعر به عندما سكن القرية، كان وحيدًا بمفرده في مواجهة ذلك الشعور. فما هو ذلك الشعور؟ الموت، الشعور بالموت الوشيك، القلق - بالمعنى الهايدجري. لم يستطع ولا يرغب في تسمية ذلك الشعور، أنه ببساطة الموت. 





                                                   (2)  



يتحدث هايدجر عن" “reticent self-projection upon one’s ownmost Being-guilty, in which one is ready for Angst” (343/297). فالإحساس بالذنب يمكن أن يوضح ويؤكد على قلقي، ويمكن أن يؤدي بي إلي وجودً أصيل.تحمل كلمة gullit" الشعور بالذنب" و التى تسمى بالألمانية Schuld دلالة على الإحساس بالدَين. ومع الشعور بالذنب ارى أن الماضي شيئًا انا مسؤلًا عنه. وللماضي الذي الذي أِشعر بالذنب تجاهُ دينً وتأثير على حاضري، على الرغم من أنه لا يكون سببًا فيه. إيفان وحيد تمامًا، ومصابًا بالإحساس بالذنب لشكل تأثيره على الآخرين: 

غادر أصدقائه المنزل بعد العشاء، تاركين إيفان وحيدًا مع حقيقة أنه حياته اصبحت سامة وتسمم حياة الآخرين، وكان أبعد ما يكون عن التحسن، فكان السمُ يخترق وجوده بشكل أعمق بمرور الوقت (83). 


لاحقا يتخيل إيفان نفسه في محاكمة واقفًا أمام القاضي ويصرخ: 

"لكنني لستُ مذنبًا، لما كل هذا؟! … لماذا كل هذا الخوف؟ ما الهدف من وراء هذا؟ ولكن الطريقة التي يفكر بها لا يمكن لها الوصول إلى إجابة. وعندما تباغته فكرة أنه لم يعش حياته كما يجب، يستدعى فكرة مدة صلاح كل حياته، ويرفض تلك الفكرة الغريبة (120)." لا يستطيع إيفان مواجهة فكرة أنه عاش حياة غير أصيلة، ولكن على الأقل بدأت الفكرة بالتلاعب بعقله.


أطلق هايدجر مصطلح "نداء الضمير الوجودي" وهو قادرًا على إعادة تموضع الديزاين، يقف الديزاين في مواجه نفسه ويدرك بطريقة واقعية أنه يقف وحيدًا. ربما أن ينتمى الديزاين إلى جماعة أو آخري، ولكنه في النهاية يموت وحيدًا. يري إيفان أنه على وشك الموت، وفي حالة دائمة من اليأس ولكنه لم يستطع أن يدرك ما الذي يعنيه هذا. فهو يفكر وفقًا للقياس المنطقي: 

كايوس رجل، وكل الرجال فانون، لهذا فإن كايوس فان، بدا ذلك وجهيًا له كما انطبق على كايوس، ولكن ليس ليس على نفسه بحال من الأحوال. فـ كايوس في المثال شئ مجرد، الاستدلال يبدو سليم تمامًا ولكن إيفان لم يكن كايوس، وليس رجلً مجردًا (93). 


رجع إيفان ليتأمل فترة طفولته والحياة السعيدة التي عاشها كطفل يلعب الكرة، يقبل يد والدتهُ. لم يفعل كايوس الذي في المثال كل تلك الأشياء، لم يكن إيفان الصغير يدرك هذا لولا حقيقة أنه سيموت؟ فكما يقول" لو أننى كنت متوجهًا نحو الموت مثل كايوس ربما كنت ألفته وعرفته، ربما يخبرنى صوت داخلى. ولكنى  لم أكن واعيًا يومًا بشئ مثل ذلك" (94). بدأ "صوت الضمير الوجودي" يتحدث إليه: 


"يدور السؤال بخلده مرارًا، ماذا تريد؟ فيُجيب: أن لا أعانى، وأن أحيا… يسأله صوت بداخله: أن تحيا؟ كيف؟ لأعيش كما عشت من قبل بسعادة وسرور"(118).  لم تعد حياته الماضية ذات أهمية عند التفكير فيها:"تبدو الآن كل اللحظات المميزة في فترة حياته الهانئة مختلفة تمامًا، عدا تلك الذكريات الأولي للطفولة. كان هناك ثمة شيئا سعيدًا طفولته…لكن الشخص الذي اختبر تلك السعادة لم يعد موجودًا. كما لو أنه يسترجع ذكريات شخص آخر"(119).


نظر إيفان إلي فترة ما بعد الطفولة كأنها شيئًا غير مميز علي أي حال، فلم يأخذه تسلقه إلى الأعلى: "كان الأمر وكأنى انحدر بثبات بينما أتصور أنى أتقدم" (120). كان قد بدأ يرى الحياة كشئ فارغ وبغيض، حينئذ ظهر له ما يمكن أن يُلقي عليه المسؤولية:"ربما لم أعش كما يجب" "ولكن كيف ذلك وقد فعلت كل شئ كان من المفترض أن أقوم به؟!" (120). وفي الواقع، كل فعل كان من المفترض القيام هو كان المشكلة بالتحديد. فقد عاش كما يعيش الآخرون، ليس فقط في العمل و الهوايات والسلوك، ولكن في نتصلهِ من الموت. فلم يكن يومًا أصيلًا. 


لا يمكن تغيير ماضي إيفان، ولكن بما أن ماضيه لا يحدد مستقبله، إذن كيف يمكن مواجهة المستقبل؟ وإجابة هيدجر هي ما يسميه "العزم" أو التصميم “resolve” or “resoluteness” حيث أنها خطوة أستباقية. فكما يقول هيدجر:" “Self-projection upon [Dasein’s] ownmost being-guilty, in which it is ready for Angst—we call ‘resoluteness’” (343/297), and “Angst merely brings one into the mood for a possible resolution” (394/344). فالديزاين هو مواجهة المستقبل ممتلئًا بالشعور بالمسؤولية والاستباقية. 

بالفعل كان إيفان عازمًا ومصممًا ولكن في فترة بحثه عن عمل في سان بطرسبرج، ولكن عزمهُ لم يكن بالمعنى الهايدجري. فهو لم يتحمل مسؤولية ماضيه ولا يكن أستباقيًا بشكل أصيل، بمعنى أنه يملك وجوده بالشكل الذي يجعله يمضي قدمًا. فهو كان يسقط على الرغم من اعتقاده أنه كان يرتقي. فكما أوضح هايدجر:" “resolute Dasein has brought itself back from falling, and has done so precisely in order to be more authentically ‘there’ in the ‘moment’ as regards the Situation which has been disclosed” (376/328).

فلم يكن إيفان عازمًا بذلك المعنى. 


تقلب إيفان في فترة مرضه بين التسليم والإنكار بحقيقة موته الوشيك، فضلا عن تقلبه بين الرفض والقبول بحقيقة أنه لم يعش حياة أصيلة. كما إننا نتوقع أن المحيطين به موجودين في شكل النفس الجماعية they-self، فزوجته وطبيبهُ وأصدقاءه يفرون من مواجهة الموت. فهم لا يتقبلون حقيقة موت إيفان الحتمية، و يشجعونه على الهروب من تلك الحقيقة. بدأ إيفان يرى عدم أصالته واستطاع رؤية عدم أصالة الآخرين بوضوح:"لم يسمم حياة إيفان الأخيرة كما فعل زيف نفسهِ والمحيطين به" (تولستوي 105). لم يتقبل حالة إيفان الصعبة بصدق وصراحة سوى جيراسيم الخادم، وڤاسيا ابنه الأخير. لم يجد إيفان الراحة بين الأصدقاء سوي مع جيراسيم:

"ربما يكون الأمر مختلفًا بعض الشئ إذا لم تكن مريضًا، ولكن هذا هو الحال، لماذا لا أقوم ببذل المزيد من الجهد؟. كان جيراسيم الوحيد الذي لا يكذب، وكل شئ يفعله يشير أنه الوحيد الذي يدرك ما يحدث، ولذلك فلم ير حاجة لاخفاءه، فقد كان مشفقًا على سيدهِ الضعيف الضائع" (104).


                                                   (3)       


تأمل إيفان في حياته، وفي النهاية وجد أن حياته التي عاشها لم تكن أفضل شكلٌ ممكن.         

"ماذا لو كانت كل حياتى، وبالتحديد فترة حياتى الواعية غير حقيقة؟ ترائي له ما لم يتصوره من قبل- أنه لم يعش الحياة التى كان يجب أن يعيشها، وفي الحقيقة أن ذلك صحيحًا…فمهامة الأساسية، وأسلوب حياته وأسرته والقيم التى يلتزم بها ووظيفته، كل تلك الأشياء ربما لم تكن شيئًا حقيقًا" (126-7). 

نظر إيفان إلي زوجته وأبنته كجزء من الحياة التي عاشها، ولكن الأمر لم يكن بتلك البساطة "لقد رأي نفسه في زوجته وابنته، كل ما عاشه، رأي بوضوح أن كل هذا لم يكن حقيقًا وأنه عاش في فزع ووهم خادع منعه من الحياة والموت على السواء" (127).  



أصبح السؤال النهائي هو هل يمكن لإيفان أن يجعل من "حياته شيئًا حقيقيًا" ذات وجود أصيل في الوقت المتبقي من حياته. فهو لا يزال متشبثًا بصورة متداعية بافتراض أن حياته كانت جيدة، على الرغم أنه أصبح أكثر وضوحًا له أن الامر لم يكن كذلك. يصف إيفان حياته وكأنه يغرق في ثقب أسود، ولكن ثمة هناك تغيير:"رغم غرقه في ذلك الثقب، فقد كان هناك شيئًا يبرق في الأسفل" (123). في النهاية قد ظهرت له حقيقة "نعم، لقد كان كل ذلك غير حقيقي. ولكن لا يهم، لازلت أستطيع أن أشيد أشياءًا حقيقة - نعم أستطيع. ولكن ما هي الأشياء الحقيقة؟" (132). يقول هايدجر:"القلق يُفرد المرء" وذلك التفرد يعيد الديزاين من حالة السقوط، ويكشف له أن الأصالة وعدم الأصالة هي أمكانيات لوجوده" (235/191)


وافق إيفان في مناقشة مع زوجته على آداء بعض الطقوس الدينية، ولكن ليست الطقوس الأرثوذكسية هي التي ستحميه، فرغم التحسن المؤقت فإنه سيرتد مرة آخري إلي عدم الأصالة. فالديانات المنظمة وطقوسها هي مهرب وملاذ للنفس الجماعية they-self، فعلي إيفان أن يجد سلوى أصيلة من نفسه لتجاوز الشعور بالذنب. 

رغم قصور الكلمات، فقد سامح إيفان عائلته وسامح نفسه. وليس أداء الطقس الذي حثهُ على التحدث حول الأصالة، ولكن قُبلة من ابنه ڤاسيا. لقد توقف الألم. سأل إيفان نفسه "والألم؟" "إلى أين ذهب؟" "أين ذهبت أيها الألم؟". لم يكن ذلك التغيير جسمانيًا فقط، بل نفسيا أيضًا. "لقد بحث عن خوفه المعتاد من الموت ولكنه من يجده. أين الموت؟ وكيف الموت؟ لم يكن هناك خوف لأنه لا يوجد موت" لقد تحرر ليس فقط من الألم والخوف والموت، ولكنه أيضًا تحول إلي حالة روحية ولكن ليست بالمفهوم الديني. لقد أصبح أصيلًا، لكن ليس بالمعنى الهايدجري:"صرخ إيفان وقال: هنالك نورً بدلًا من الموت، هذا كل شئ، يالها من نعمة. حدث كل هذا في لحظة واحدة، ولكن دلالة ما حدث باقية" (133). لقد شُفي إيفان:"قال لنفسه لقد انتهى الموت، ليس هناك أكثر من الموت، آخذ إيفان نفسًا واحدًا ولم يتبعه آخر، ثم تمدد ومات" (134). رغم أن مفهوم هايدجر للأصالة لا يتفق مع إنكار الموت، ولا يقدم أي وعود بنعمة مثل التى شعر بها إيفان، ولكن مفهوم الأصالة لدى هايدجر يمكن أن يشمل على "مرح لا يتزعزع" (358/310).


تشير بداية القصة إلي صدق تحرر إيفان وهو على فراش الموت. ويقول الراوي في وصف الجسد:    

"تحول وجه إيفان معبرًا عن جمال فائق- يفوق كل شئ رأه في حياته. تعبيرٌ يحمل ضمنيًا التأكيد على أن ما كان يجب فعله قد تم، وتم بشكل صحيح (39-40).


يتيح الموت النظر إلى الديزاين بصورته الكلية، ورغم أن الصعود إلى عدم الأصالة كان قاتلًا لإيفان، ولكن العزم resoluteness الأصيل أنقده قبل مواجهة الموت، وهكذا تكون مهمته الحقيقية والوحيدة قد أنجزت. 

  

يشير هايدجر إلي أن أهمية القبول بحقيقة الموت الحتمية ليست في الانشغال المرضى بالموت، فالتأمل في الموت لا يعنى أن نصاب بالاكتئاب والخوف من كل فعل وتصرف، ولكن على النقيض تمامًا، فتقبل الإنسان لموته الحتمي يجعل من وجوده أصيلًأ. فبامتلاكنا وقبضنا على حقيقة أننا لا يمكننا تجنب الموت نستطيع أن نكون أنفسنا. فلسنا بحاجة لننتظر لأن نكون على فراش الموت لنتحدث مع أنفسنا، لماذا علينا أن ننتظر؟   



ليست هناك تعليقات: