الثلاثاء، 5 ديسمبر 2023

ما الذى نناضل من أجله؟ روجر بيركوفيتش - ترجمة: عبدالرحمن الهندي

تلمس نيتشة جذور أزمتنا الثقافية والسياسية عندما أعلن "موت الاله"، وإلي جانب ذلك فقد قتلنا أيضًا العدالة والحقيقة. نقول أننا نٌعلى من شأن العدالة ولكننا نختار الراحة والمردود فقط، ندعى أننا نحترم الحقيقة ولكننا نسعى إلي ترابط خيالى، فنأمل المستحيل في عالم لا يمكن التنبؤ به.  المساواة هي ما نؤمن به ولكن الأحادية هي ديننا. فيعنى موت الإله هنا أنه لم يعد هناك قيمة عليا، لأن كل القيم أصبحت نسبية، لم تعد هناك حقيقة مهمة إلينا كجماعة نحارب أو نموت من أجلها.

عبر صموئيل موين في كتابه "اليوتوبيا الأخيرة" عن اضطراب القيم بأننا فقدنا إيماننا على أعتاب السرديات السياسية الكبرى. فالشيوعية باتت مرادفة تعنى الشمولية، والرأسمالية مرادفة للعيش الرغد، فالديمقراطية باتت فاسدة ولا تحظى بالشعبية، ورغم طغيان تيار المحافظ فالتقدميين بحر لا ساحل لم يرسو على شاطئ. فالأنموذج المثالي المتبقي هو حقوق الإنسان، فحقوق الإنسان مقدسة، فالرجل والمرأة يجب أن يتم إبقائهم على قد الحياة ويتم تسكينهم وإطعامهم مثل الحيوانات. مثل تلك السياسات التى بالكاد تبقى الإنسان حيًا من الصعب أن تقدم نموذج طموح سياسي تدب فيه الحيوية لازدهار الإنسانية. ولكن، فالحد الادنى المشترك من السياسية الاضطرارية هي ما تبقى على وجود المشروع العدمي . ما يخيف من العدمية هى صمتها، ففى ظل موت الإله، ونهاية الطرق المعهودة والنماذج المثالية السياسية، فإننا نقف. في "بين الماضى والمستقبل" قالت حنة أردنت "يجيبنا الصمت المشؤوم بلا، عندما نجروء على السؤال، ليس سؤال ما الذي نحاربه ولكن السؤال، ما الذي نحارب من أجله؟" فنحن نعلم ما الذي نقف ضده ونعارضه، الشمولية والفاشية، العنصرية، التمييز الجنساني، والوحشة والشعور بانعدام المعنى. ولكننا فى صمت في مواجهة تحدى ذلك السؤال: ما الذي نحارب من أجله؟ 

التجربة الجوهرية للوجود لم يتلفت إليها الدين أو السلطة أو الانماط التقليدية في المجتمع، ولكننا نختبرها بمفردنا، وهذا ما أسمته أردنت العزلة الحديثة. فاليوم، الكتل المنعزلة ينتشر بينها الشعور بانعدام المعنى "القنوط من العزلة". فكتبت عنه أدرنت في كتاب طبيعة الشمولية "أنه صامت، لا يسعهٌ أى نقاش". فأن تكون منعزلًا يعني أن تشعر بأنك منبوذًا ومهجورًا مقتلعًا من جذورك، بلا مأوى. وأن تختبر العالم كأنه مدمرًا والجزء الآخر منه بعيد المنال. ورغم أنه يمكن للإنسان أن يكون محاطًا بأناس كثيرين إلا أنه يشعر وكأنه منبوذًا ومنقطعًا عنهم.

اعتبرت حنا أردنت أن تحدى إعادة ترسيم عالمُ مشترك ذو معنى دون اللجوء إلي  تقاليد النوستالجيا هو جزء لا يتجزأ من تكريس مبدأ ثوري، والتأسيس الذاتى والحر لمؤسسات جديدة وذات معنى. فى حوار مع أدلبرت ريف في سنة 1970 أكدت على أن المبدأ الثورى يتطلب بالتحديد ما نفقده اليوم "مجموعة من الثوار الحقيقين" لديهم إجابة مقنعة على سؤال "ما الذي نحارب من أجله؟".

 

تحدث الثورات عند تخلخل الأنظمة بشكل ملموس، فتصبح المؤسسات السياسية والإجتماعية فاقدة لشرعيتها، ويخلق هذا وضعًا ثوريًا، حيث تكون القوة ملقاة في قارعة الطريق،  جاهزة لالتقاط، طيعة في يد من يمكنهم التعبير عن القيم والمُثل التى تستحق النضال في سبيلها. وتأتى فقط تلك اللحظة الثورية فقط عندما يقدم الثائرين منطق سليم جديد، رؤية للعالم المشترك تقف على أنقاض العالم القديم، فبدون رؤية ذات معنى لما يمكن أن يجمع الناس معًا، لن تكون هناك ثورة ممكنة.

كتبت أردنت في كتاب الوضع البشرى أنه علينا "التفتيش في الفضاء العلمانى عن معنى مستقلًا وجوهريًا لا يمكن للإله حتى أنه يغيره". فالبنسبة لأردنت بدون السياسة ليس هناك عالمًا مشتركًا، أو ليس هناك مجالًا عامًا بدون نوعٌ من التجاوز. يٌقصد بكلمة التجاوز حرفيًا التخطى، ولكن أردنت قصدت تجاوز فناء حيواتنا إلى "خلود دنيوىّ". يتوسط التجاوز إلى الخلود الدنيوي قلب ما تعنيه أردنت بالعيش سياسيًا، أن تعيش في العالم المشترك والعام.

 

يجاد ما يجمعنا ككل هي مهمة الأساسية للسياسية، أيضًا مع الحفاظ على التعددية، فتري أردنت أن السياسية غير ممكنة فى غياب الرغبة في الخلود الدنيوى كاشرطًا للتجاوز. وتضمن السياسية واقعًا مشتركًا من خلال وضع شرطًا للحصول على مساحة محايد تسمح لكل المواطنين أن يكونوا "مهتمين دائمًا بنفس الموضوعات" .  تتطلب السياسية مساحة مشتركة، حيث يتخاطب ويتفاعل المواطنون سويًا، وبفعلهم ذلك، يتجاوزون ذواتهم المستقلة إلي العالم المشترك. تعتمد بذلك السياسية على التجاوز، بظهور المنطق السليم "الذي يتلائم مع الواقع ككل حواسنا الخمسة الفردانية" . ينكشف لنا العالم الحقيقى نتيجة المنطق المشترك الذي يسمح للعالم أن يوجد بصورة محايدة وسط التعددية الفردانية.

والوقوف فى العالم تجاوزًا يعنى وجوب أن يكون العالم المشترك متجاوزًا  لما ما وراء رؤيتنا الشخصية وحياتنا الفانية القصيرة. وليكون هناك مشتركًا بين الجميع، يجب تجاوز المصالح والحيوات الفردانية. والسؤال الذى نواجهه اليوم، كيف في زمن الحداثة - عصر موت الاله وتدمير التقاليد - يمكن لنا أن نسعى إلى عالمٌ أبديّ  يستحق الذود عنه. فرأت أردنت أن مهمة السياسية هي السعي للأبدية  .والسياسة الثورية عليها الإجابة عن السؤال" ما الذي نناضل من أجله؟" بطريقة مثقلة بالمعنى ساعية للخلود. ولإننا مخلوقات ذو حياة قصيرة والموت بالنسبة إلينا يعنى النهاية، فالسعى إلى الخلود ذو معنى بالنسبة إلينا، فمأزق الإنسان هو: ما هو المغزى من  الحياة البشرية؟ فبعد أن نموت، لماذا كانت حياتنا مهمة؟ لماذا علينا أن نعانى من حظوظنا المقيتة في وجودنا المؤلم إذا كان ذلك كل ذلك لا زوال؟ كيف يمكن لنا أن نضمن لمن هو فان معنَا متجاوزًا لحياته المحدودة؟

قدمت أغلب الأديان إجابة عن تلك الأسئلة، ولكن ترى أردنت أن ما نحتاج إليه فى عصر ما بعد الأديان وما بعد الميتافيزيقا، هو "التفتيش فى عالم المادى عن معنى مستقلٌ جوهري، لا يمكن حتى لإله استبداله". فالبنسبة إلى أردنت لو كان الدين طريقة الإنسان لجعل الحياة ذات معنى بوصفها من صنع الإله وجزء من المنظومة الأخلاقية ككل، فالسياسة بالنسبة إليها طريقة  آخرى لإلزام الإنسان بتجاوز كلى ذي معنى.  والذي يميز الإنسان فى بشريته هو قدرته على التصرف وفقًا لمعنى محدد، وبتالى قدرته على تحقيق نوعٌ معين من الخلود.

لاحت فى الأفق الحاجة في عصر موت الإله لاستبدال المعنى المتجاوز الذى قدمه الدين بمعنى جوهريّ  متأصل، ينبثق من بين ثنايا النشاط السياسى، والتحدث والعمل حول  عالم المشترك. وطريقة بناء عالمٌ جوهرى ومتجاوز ذو معنى فهى من خلال قدرة الإنسان على التحدث والعمل. تعتقد أردنت فى قوة التحدث، فكتبت "أننا نصبح أكثر عدلًا وأكثر نُسكًا عند التفكير والحديث حول العدل والصلاح" ولكن لماذا ذلك؟

 

أولًا عند الحديث عن العالم، نجعل العالم واضحًا تعقيداته، يتألف العالم من أراءًا متعددة، حقائق لا متناهية، أفعالًأ لا يمكن التنبؤ بها. يروق لأردنت الاستشهاد بالسياسى الفرنسي بيير جوزيف برودون عاش في القرن التاسع عشر لتوضيح وجهة نظرها المتعلقة بفشل رغبة الإنسان بأن يتسيد العالم "تفوق خصوبة ما لم يٌتوقع حدوثة حصافة السياسيين" فنحن فى عالمٌ يستعصى على الاستنتاجات المنطقية.

 

 

ثانيًا، عندما نتحدث حول العالم، فإننا نصدر أحكامًا ونتأخذ قراراتًا بشأن العالم. وتقول أردنت أن تلك القرارات

"ربما في يوم ما يثبتُ أنها غير ملائمة" ثانيًا، عندما نتحدث حول العالم، فإننا نصدر أحكامًا ونتأخذ قراراتًا بشأن 

العالم. وتقول أردنت أن تلك القرارت"ربما في يوم ما يثبتُ أنها غير ملائمة" وحتى لو غاب الأتفاق حول طبيعة 

الكارثة وطريقة حلها، فعملية التحدث مع الآخرين بشأن كارثة ما نمر بها "ترسى أساسًا لاتفاق جديد بيننا فضلًا

 عن بين الامم الأرضية، مما يعنى بعد ذلك أن يٌصبح عرفًا أو قاعدة، والمعايير تجمد مرة أخرى فيما يسمى

 بالأخلاقى". نخلق عند تحدثنا مع بعضنا البعض نوعًا من الخبرات ونقاط الاتصال المشتركة التى ربما بمرور

 الوقت تصبح بناءًا للعالم المشترك الجديد، يمكن ينتج عنه أعرافًا جديدة، فبتالى ينتج نظامًا أخلاقيًا جديدًا. وإحتمالية بث روح جديدة في عالم أخلاقي مشترك جديد ليست فقط ممكنة ولكنها منتظرة، ولكنها تعتمد على الجرأة في

 الحديث بصراحة وبنفتاح على الآخر وتغييب التعنت الإيديولوجي. وبفعل ذلك سوف نفهم ما الذي نتشاركه وما

 الذي نختلف فيه، فبخلق عالم 

مشترك نستطيع البدء في عملية بث الوجود في العالم. "أنا شخصيًا لا أشك عندى فى أن الاضطراب الناتج عن

 مواجهة الواقع بدون مساعدة من خبرة سابقة، مثل تقاليد أو سلطة ستنتج فى النهاية نمطًا سوكليًا جديدًا" وهذا هو 

مصدر تفاؤل أردنت. فالطريقة الوحيدة للتعامل مع أزمة القيم بشكل بناء هى مواجهة الواقع والتحدث عنه بصدق 

مع الآخرين.

 

 

 

 

 

الأحد، 3 ديسمبر 2023

ما هو اللإغتراب؟ - عقيل بيلجرامي ترجمة عبدالرحمن الهندي

 أستقر مصطلح"الاغتراب" في في مُخيلتنا مثله مثل مصطلح "المساواة" فهما مستوفيان بذاتهما في المعنى، فصرنا نتساءل بتلقائية شديدة حول المساواة في ماذا؟ ، وبالمثل أصبحنا نسأل "الاغتراب" عن ماذا؟. وحول السؤال الآخير هناك الكثير من الإجابات. وربما الإجابة الأكثر شيوعًا حول السؤال الأخير هي اغتراب الإنسان عن الجماعة الانسانية، أو ما يمكن أن نطلق  عليه الاغتراب الاجتماعي. وكارل ماركس،  رغم اهتمامه الكبير بهذا الموضوع فقد رأى أنه مرتبط بإجابات أخرى على سؤالنا: مثل اغتراب الإنسان عن عمله وعن ما ينتجهُ في ذلك العمل.

وكان لدى الفلاسفة و السيكولوجيين الكثير من الأفكار الجيدة  حول اغتراب الإنسان عن ذاته، ومؤخرًا ومع تفاقم المخاوف حول الكوارث البيئية المهددة للوجود الإنساني، اتجه الكثير من المفكرين للكتابة حول اغترابنا عن الطبيعة. 

وسينصب اهتمامي فيما يلي حول التركيز على اغتراب بعضنا عن بعض وهذا ما يطلق عليه إغترابًا اجتماعيًا أو ثقافيًا. 

ملاحظة استهلال أخرى، عندما ذكرت المساواة فهي أنموذج سياسي مثالي، ولكن الاغتراب ليس من المثالية في شيء فهو اضطراب - وفي الأطروحة التي اتبناها هنا هو اضطراب اجتماعي - بالتالى فتجاوز الاغتراب الذي نسعى إليه هو الأنموذج المثالي هنا. وقد رأى ماركس نفسه ذلك، أن مجاوزة الاغتراب هو الأنموذج المثالي الأساسي لنا، رغم حديثة عن أن الهدف الأساسي للسياسة هو الوصول إلي مجتمع لا طبقي إلا انه قد اعتبر أن تحقيق ذلك الهدف هو مجرد هندسة اجتماعية إذا لم تكن في سبيل تحقيق هدف نهائي وهو حياة ومجتمع غير مغتربين.أنصب نقاش ماركس حول الاغتراب على المشكلات التي تنشأ في المجتمعات المتقدمة صناعيًا على نحو متسارع، مع تركيزه على تكوينات اقتصادية محددة للرأسمالية، وتلك الإشكالات بالنسبة إليه تعلقت بالحياة الاجتماعية لطبقة معينة أو أجور العمل في شكل اقتصادي. 

موضوعنا هو الاغتراب في هذا المقال الموجز ولكن متجردًا حذاه ماركس ، وربما يمكننا وصف المقال بأنه يبحث في العقلية، وطرائق التفكير والتى يمكن لنا منها أن نستشف اغترابنا. وعلى نفس المنوال سأحاول كشف بعض التناقضات الرئيسية للعقلية التى تجسد المثال للحياة الغير مغتربة.  

يبدو أن كل من كتب حول الإغتراب مثل روسو، ماركس، سارتر - سنكتفي هنا بثلاثة فقط- يتفقون حول أن الاغتراب هو داء العصر الحديث. فالمجتمعات قبل الحديثة لديها ما يكفي المثالب المريعة ولكن لم يكن الاغتراب واحدًا منها. ذاق الخدم والعبيد في الازمنة الماضية أشكالًا مختلفة من الاستعباد والحرمان (في الواقع فالحرية والمساواة كمُثل عليا أصبحت ركنًا رئيسيًا في الحداثة لمعالجة هذه الأنواع من العذابات جزئيًا) ولكن من يبدو أن لم يعانوا  من الإحساس بعدم الانتماء الذي عادة ما نوصفه بأنه السمة الغالبة على حياة الاغتراب. بالطبع إذا أردنا إحياء نموذج من للحياة الغير مغتربة حاليًا فلن يكون بالطبع يجعلنا نعمل على إحياء الشعور بالانتماء القبل الحديث بما يتلازم معه من عيوب مجحفة. فيجب أن يكون نموذجًا متوافقًا مع الحرية والمساواة. و لضيق المساحة هنا فلن أكون قادرًا على الخوض في سؤال معقد نظريًا ولكن سأقدم خطوطًا أولية ما تكون عليه العقلية في الحياة الغير إغترابية.


يوجد الكثير من الطرق للكشف عن تلك العقلية ولكن، سأضع جدلية والتي من خلالها نستكشف الأمر، جدلية، اجتث ماركس من خلالها  بعضًا من سمات الرأسمالية، ولكن لن نخوض في تفاصيل تحليلاته. يقال عادة إن المفهوم الجينيالوجي للرأسمالية يتموضع في الحجة الممتدة في الفصل الخاص بالملكية الخاصة في الرسالة الثانية لجون لوك. ويمكن صياغتها على النحو التالي:  لنفترض زمن ماض، في حالته البداية ولنسمى ذلك الجزء من العالم "قطرًا طبيعيًا". يسكن فيه العامة وتختلف أشكال حيواتهم بداية من الباحثين فقط عن طعام اليوم إلي المعتمدين على الزراعة الموسمية ومن خلالها يعولون أنفسهم هؤلاء هم العامة. إذن فقد اتفق هؤلاء السكان موافقة فيما بينهم على مجموعة من الترتيبات والمبادئ الاساسية للحياة يعيشون بها، بتالى فتحول ذلك "القطر الطبيعي" إلي دولة وبتالى تحول الناس إلى مواطنين. 

ويمكننا القول بأن ذلك "العقد الاجتماعى" عقلانى جدًا إذا:

1- لم يكن هناك جزء من السكان يعيش في تدهور جراء تلك الإجراءات والبعض الآخر يعيش في رخاء - هذا في حالة وجود ((تحسينات بارتيو)) في "القطر الطبيعي" 

2 - وافق جميع السكان موافقة حرة على تلك المبادئ والإجراءات. النموذج المعياري الذي يمكن من خلاله توضيح ذلك هو: إذا قرر بحرية، بعض السكان بأخذ مساحة معينة و تسييجها وسٌجلت قطعة الأرض بشكل بدائي في ديوان انشأ لذلك الغرض، عند ذلك فهناك إمكانية إعلان أن تلك المساحة  "ملكيته". لم ينخرط آخرين في تلك العملية ولكن كان لهم دورًا آخر. فالملاك الجدد لتلك المساحات الخاصة لهم عرضوا عليهم العمل في الأرض مقابل آجر، وهو الأمر الذي لدى الأشخاص  حرية الموافقة، وبالتالى، فيٌعتقد ان الجميع (سواء المالكين أو غير المالكين للمساحات) أن الأفضل إذا كانوا في "القطر الطبيعي" الأول. وبهذا فأصبح ذلك العقد الاجتماعى عقلانيًا، فقد جُعل "عقلانيًا". وحدث ذلك عبر قوة غاشمة من حركة المُلاك في انجلترا وبعض اجزاء اوروبا في فترة قبل جون لوك. ويُقدم هؤلاء الذين استولوا على الأراضي قديمًا الآن بوصفهم إنجازًا سياسيًا وأخلاقيًا. سنقدم الآن لتلك الجدلية حجة مضادة ضد رؤية "العقد الاجتماعي" لجون لوك، ونضعها (بمفارقة تاريخية) على لسان المعارضين الراديكاليون في تلك الفترة، مجموعة مثل "ديجر" (الحفارون) وحركة الليفلرز الراديكالية. (وأقول بمفارقة لان تلك الجماعات المعارضة سبقت لوك وأيضًا سوف استخدم مفردات في صياغة الحجة المضادة التى تخصنا وليست حجتهم) ولنتحدث على لسان جيرارد وينستانلي (قائد الثائرين على من استولوا على الأراضي) بالحجة المضادة قاصدين ما يسميه الاقتصاديين تكلفة الفرصة البديلة (وهي فائدة تُتجنب عند اتخاذ قرار معين) وهو يقول - جيرارد" انت محق فملكية الأراضي واستئجار عاملين مقابل أجر للعمل في الارض سيحسن من حال الجميع أفضل مما لو كانوا في "القطر الطبيعي" ولكن، فلن يجعلهم هذا في وضع أفضل لو لم يتم تخصيص الأرض في البداية وكانت هناك زراعة جماعية للجميع."

لا يمكن القول بأن الأمر يقف عند هذا الحد، لأن الخطوة التالية المعروفة في الجينالوجيا المفاهيمه للأسئلة المثالية المخصصة، على لسان لوك، هي افتراض أساسي افترضته الحجة المضادة من التكلفة البديلة.  وتفترض تلك الحجة أن هناك مثالًا يتُحذي به في الزراعة الجماعية للأراضي المشاع. وذلك الأفتراض غير مقنع للبعض بالمرة. بإشارة سريعة هنا، سأذكر كيف يجري ذلك النقاش مستعينًا بـالاطار الخاص "بنظرية الألعاب" لمعضلة السجناء المتعددين. والمشكلة الصعبة يٌفترض حلها في سيكولوجية الإنسان، فالناس يتطلب تصرفهم بطرق تعرقل الجماعة، فالتالي ذلك يتطلب عدم تعاونهم في الطرق الأساسية المحافظة على الجماعة. يتطلب التعاون الاساسي لأجل جماعة مثالية أن يدفع كل فرد تكلفة معينة ( بعض الأوقات - في الحقيقة في اغلب الاوقات - هذه التكلفة تكون في شكل إلزامي، لأن الأفراد في الاستخدام أو الإفراط في الزرعة هو المشكلة في كثير من الأحيان) إذا دفع كل فرد من عامة الناس التكلفة سيربح الجميع بالطبع. ولكن كل فرد سوف يفترض أنه إذا لم يتعاون (بمعنى أنه لم يساهم بأي تكلفة) فالربح فوري، بينما الربح الناتج عن التعاون يكون على المدي الطويل، علاوة على، بالربح من عدم التعاون كله لصاحبه بينما الربح الناتج من المساهمة في التكلفة يقسم على المجموعة بالكامل. فضلًا عن وجود سبب مهم ويجب أخذه في الاعتبار وهو عدم التأكد من مساهمة الأخريين بالمثل. 

 لأن الفرد يظل في حيرة معرفية إذا ما كان الآخرين يساهمون ما كانوا بالجزء المطلوب منهم في الزراعة الجماعية، فيخاف المرء إذ تضيع ما ساهم به إذ لم يساهم الآخرين. (واشدد على القلق المعرفي أكثر من الاعتبارات الاخرى لانها ستنقلنا إلي ما يسمى "بالنمط الغالب" لأنه هو ما أريد ربطه بما أريد توضيحه بخصوص قولي بعقلية الاغتراب). وفيما يتعلق بفهم المثال الجماعى، فبعض الافراد الذين قررو عدم التعاون فهم دائما في ميزة وهي الربح الفوري في حالة عدم التعاون، أخذ المكسب باكامل، والضمانة التامة، علي الجانب الاخر، الربح من التعاون يكون على المدي الطويل، يُقسم على أفراد المجموعة، وفوق ذلك دائما غير مضمون. فعدم التعاون بالنسبة إليه كفرد يكون خيارًا عقلانيًا. ولكن، لا يمكن نجاة الجماعة إذا تصرف بناءً على عقلانية فردانية. ستفشل، فتلك هي المأساة، ولذلك فالتخصيص بالنسبة إلي الفرد هو الرهان الأفضل. الجدلية التى أقمتها حول المفهوم الجينيالوجي لرأس المال تلفت النظر إلي عقلية الاغتراب. أود القول بأن السؤال الذي طرحته سابقًا في هذا النقاش الذي من المفترض أن يسأله الفرد العاقل، ماذا لو ساهمت بتكلفة في التعاون والآخرين لم يفعلوا بالمثل؟ وهذا السؤال فقط يُطرح عندما يكون الشخص شاعرًا بالاغتراب. فذلك السؤال يشير إلي علامات عميقة وحقيقة على أغتراب المجتمع. ولذلك فالمثال على الحياة الغير مغتربة يتمظهر في عقلية مختلفة بالكلية. فعندما يكون الشخص غير مغتربًا فذلك السؤال لا يطرح من الاساس، وأقول "لا يطرح" واعنيها بشكل حقيقي. فالمثال على الحياة الغير مغتربة ليست مثل الأخويات المثالية أو الترابط المثالي مع الآخرين، فمحاولة تقديم مثال على الحياة الغير مغتربة ليس نقدًا اخلاقيًا للذات. فذلك تصور أكثر تجريدًا أو ابستمولوجيًا أو نقطة معرفية. فالسؤال الذي يوجهه النقاش باتجاه مأساة العامة ببساطة ليس له وجود، في حالة عمل المثال الغير اغترابي.

ولتوضيح ذلك، اسمحوا لي أن أقص لكم حكاية شخصية، تتعلق بتجربة لي مع والي. فقد كان يسألنى في بعض الأحيان أن أذهب في تمشية معه في الصباح الباكر علي الشاطئ المجاور لمنزلنا في مومباي. وأثناء المشي في أحد الأيام وجدنا محفظة وبها بعض النقود. أوقفنى والدي وسألني بدرامية : لماذا لا يجب أن نأخذ هذه المحفظة؟ 

فقلت في خجل وصراحة ايضًا: اعتقد أننا يجب أن نأخذها. فنظر إليها في غضب وقال: لماذا تعتقد أننا يجب أن نأخذها؟ فأجبت بالجواب الكلاسيكي: لأننا إذا لم نأخذها، فشخص آخر سوف يفعل. توقعت أن يغضب ولكنه قال في هدوء: إذا لم نأخذها، فلن يأخذها أحد بعدنا". أعتقدت أن تلك ملحوظة غير معقولة تمامًا. ولكن فقط بعد عقد من الزمن عندما كنت أتفكر في سؤال الاغتراب، أدركت أن تلك الملاحظة تعكس إطارًا فكريًا غير مغتربًا. 

لا يمكن أن يكون رد أبي "فلن يأخذها أحد آخر من بعدنا" معبرًا عن عدم الاغتراب إذا فهمناه كتوقع لما سوف يفعله الآخرين. حال توقعنا لافعال الاخرين فنكون في نقطة منعزلة عنهم، وتلك النقطة يسودها اغتراب العلاقات الاجتماعية. و نرى الأخرين من تلك الزاوية فقط عندما نكون مدفوعين لنسأل السؤال الذي يستحضر مأساة الناس في أذهاننا: ماذا لو ساهمت في التعاون ولم يساهم الآخرين؟ ربما ما قاله والدي من وجهة نظر موضوعة مجرد تفاؤل غرٌ حول تصرفات الآخرين. ولكن افتراض  أن الاخرين لن يأخذوا المحفظة إذ لم نفعل نحن،  أو افتراض تعاون الأخرين إذا تعاونا نحن ليس منطلقًا من وجهة نظر مغتربة أو منعزلة. 

فهو أفتراض من نوع مختلف، معبئًا بروح "لنرى أنفسنا على هذا النحو"، يستند علي أفتراضٌ أن اللاشعور يعبر عن عدم الاغترابنا عن ما حولنا في العالم، بدلًا عن اتخاذ طريقة منعزلة مغتربة والوقوف موقف المُقيّم والمُتوقع لكيفية تصرفات البشر. بعتبارة أخري، أقترح والدي أن موقفي الذي دفعنى لتقديم تلك الاجابة على سؤاله هو نوع من القصور في التحقيق من نموذج غير مغترب كما أدعى أنا انه منعكسًا في السؤال الذي من المفترض أن يطرأ على الشخص العقلانى في مفهوم معين من العقلانية الاجتماعية والسياسية التى تحرك الاعتبارات التى تقود مأساة الناس.

والأمر العجيب هو عندما يكون نموذج عدم الاغتراب - المفهوم بهذه الطريقة- فعالًا فأنه لا يكون مثاليًا. فقط عندما نأخذ مسافة، مثلما قلت لوالدي بأن نأخذ المحفظة أو الاضطراب و القلق الذي يسوق الناس بشأن إذا ما كان الآخرون سيتعاونون أم لأ. يظهر عدم الاغتراب وكأنه مثالًا عليًا، وهو الشئ الذي كان والدي بحاجه إلي قوله. وبهذا المعنى، فهو يختلف تمامًا عن مثلنا المركزية مثل الحرية والمساواة التى تجد تمظهراتها ثابتة وصريحة في القوانين والدساتير والسياسيات.

كانت تلك ملاحظة مختصرة جدًا حول طبيعة المثال. حيث كنت مشغولًا بتعريف إضطراب شائع وعقلية أو نموذجٌ تفكير مثاليًا لحياة غير مغتربة تواجه بعقلية مختلفة. وما هي أنواع الشروط الاجتماعية والمؤسسية التى تعزز من الأنموذج المثالي والعقلية البديلة التى يجب أن تظل محل اهتمام لنا في موضع آخر. ولكن، في النهاية، سأقول، فالأنموذج، كما قدمته ليس من الفترض أن يظهر كضرورة أساسية، لأن هناك شعورًا بأن شبح مأساة العامة مبالغ فيه، وأن العامة ليس محكومًا عليهم بالمأساة لأنه يمكن ضبط الناس بواسطة التنظيم من خلال الرقابة والمعاقبة على عدم التعاون.

ومن يمكن أن يكون ضد القانون؟ هو شئ جيد بلا شك، ولكن الشئ الغير واضح هو إذا ما كانت تلك القوانين نفسها تذهب إلي شكل من التفكير يخلق مأساة للناس في المقام الأول. حتى لو تجاهلنا الصعوبات المعروفة لتحديد الكثير من الاشكال الغير واضحة من عدم التعاون يظهر السؤال، لماذا على شخص أن يتعاون مع الشرطة والنيابة والتنفيذ القانون لو كان بإمكانه عدم التعاون. من خلال تقديم الرشاوي على سبيل المثال أو يهدد على طريقة المافيا المحققين والشرطة والمتعاونين معها مثل الشهود مثلًا. وهناك من يفتخرون بأنفسهم بأنهم لم يستخدموا الرشوة أو التهديدات أو عدم التعاون عبر تمكنهم من ثغرات القانون والتشريعات ليجعلوا من عدم تعاونهم قانونيًا رغم كل شئ. ولذلك، ورغم الوجوب علينا بألاتزام ودعم القوانين، فيجب أيضًا التحقق إذا كان هناك إشكالية في القوانين تحمل الناس بالمأسي، إشكالية في العقلية التى تكمن خلفها يمكن تصحيحها بحلول مثل التشريعات، أو إشكالية يجب أن نواجهها بعقلية بديلة. كما قال اينشتاين: لا يمكن حل مشكلاتنا بطريقة التفكير التى استخدمنها عند خلقنا للمشكلة.  وهذا هو الهدف الاعمق الذي يعالجه الأنموذج المثالي للحياة الغير مغتربة.


عقيل بيلجرامي هو أستاذ الفلسفة في جامعة سيدني مورجنبيسر وأستاذ في لجنة الفكر العالمي في جامعة كولومبيا. وهو مؤلف الكتب: الإيمان والمعنى (1992)، معرفة الذات والاستياء (2006)، والعلمانية والهوية السحر (2014). وله كتابان قادمان: ما هو المسلم؟ (تنشره مطبعة جامعة برينستون) و غاندي الفيلسوف (تنشره مطبعة جامعة كولومبيا). يدور عمله الحالي طويل المدى حول موضوع العلاقة بين القيمة والفاعلية. الصفحة الأكاديمية الرئيسية: https://philosophy.columbia.edu/content/akeel-bilgrami