الأحد، 28 يناير 2024

الموت بانعدام الأصالة

 تستدرجنا قصة "موت إيفان إيليتش" لتكون نموذج جيدًا لعرض بعض الأفكار الرئيسة في كتاب "الكينونة والزمان" لـ هايدجر. ولكن هذا ليس دقيقًا، بالاحري يدين هايدجر باستلهامه إلى تولستوي، دينٌ لم يوفّي حتى بإشارة هامشية في كتاب "الكينونة والزمان" إلى قصة "موت إيفان تيليش". تناول تولستوي في قصة "موت إيفان إيليتش" ظاهرة الاضطراب والتداعى نتيجة "موت أحدهم" (298/254).


يقول والتر كوفمان: فكرة الموت عند هايدجر في مجملها شرحٌ لقصة "موت إيفان إيليتش" (355).

لكن لم يوثق كوفمان هذا الادعاء بدليل سياقي من قصة تولستوي. عارض روبرت برناسكوني هذا حيث جادل أنه" لا يمكن مماثلة هايدجر وتولستوي على الأقل ليس على أساس القراءة البسيطة والانتقائية للغاية التي قدمها كوفمان (14- 15). فهذا روائي والأخر فيلسوف فكلاهما  يقومان بأشياء مختلفة جدًا. ورغم دين هايدجر إلى تولستوي فهو أكثر بكثير من مجرد تقديم شرح على القصة. ورغم ذلك فالكثير مما قدمة هايدجر عن الموت يبدو أنه مُستلهمٌ من تولستوي.


قدمَ آلان برات في "ملحوظة على تحليل الموت عند هيدجر" ربطًا سياقيًا الذي تجاهلهٌ كوفمان، حيث أنصب تركيزه على الموت، ورغم ذلك، فقد أغفل عناصرًا من القصة التى تكشف أكثر عن ما يدين به هيدجر به إلي سرد وتصور تولستوي للأصالة وعدم الأصالة (297- 304). فلا يمكن إقرار ذلك من خلال دليل لغوى أو سيرة ذاتية، ولكن من خلال التأويل الذي نقدمه للقصة نقيمُ دليلًا بذاته. 





                                                       (1)



لا يعتقد هايدجر أن هناك طبيعة بشرية أو جوهرٌ قبليًا، ولكن، كما يقول فإن جوهر الديزان (الحضور) يمكن كينونته. (Zu-sein) (67/42). فإننا نكون أنفسنا من خلال الاختيارات التى نتخذها. مفهوم هايدجر للأصالة من الصعب للغاية تعريفهُ أو اختزاله، ولكن يمكن أن نأخذ شرح تشارلز جينيون كنقطة انطلاق لنا " الحياة الأصيلة هي التي تعاش كتدفق موحد يتسم بالتراكم والإدارة"  (الأصالة، القيم الأخلاقية، 229). وبذلك فالأصالة هي تختص بكيفية عيش المرء حياته، وليس ما يكونه المرء (“أصالة هيدجر” 334)، فيملك الفرد الأصيل كينونته، فيأخذ على عاتقه مسؤوليتها بوصفها شيئًا يشكّلهُ ويؤسسه. 


ولا ليست الأصالة أمرًا خاصًا بفحوى الحياة، بقدر ما هي أسلوبًا من خلاله يعيش المرء. يبدوا أن التمايز بين الأصالة وعدم الأصالة لا يتعلق بما يكونهُ المرء (الماهية - المترجم) بمفهوم الإمكانيات التي يتخذها، ولكن بالطريقة التي يعيش بها (الأصالة عند هايدجر، 334). 


فلا يوجد فرد أصيل أو منعدم الأصالة بالكلية، ولكن هناك حالة (mode) أو آخري ترجحُ كفتها في السيطرة والسيادة. وكما يصف هايدجر أننا في حياتنا اليومية نميل إلى السقوط في النفس الجماعية “they-self” (das Man). فنحن نفقد أنفسنا في الهوية الجماعية وهذر الجموع الفارغ من المعنى. فنصبح مجرد أفرادًا وسط الآخرين، وبالتالي نتبنى الآراء الشائعة والمقبولة إجتماعيًا المتعلقة بالأحداث الجارية، مما يجعلنا مستغرقين في مشكلات وأحاديث تبعدنا عن فردانيتنا، حينها يكون الغالب علينا عدم الأصالة. 


كان إيفان إيليش غير أصيلًا حتى أحاط بدائهِ. إيفان رجل بارع على عدة مستويات، ولكن لم يكن هناك شيئًا استثنائًيا. "في الواقع، حياة إيفان هي الأكثر بساطة وإعتيادية، والأكثر رعبًا(49)". فقد كان الابن الاوسط لموظف حكوميًا، ولم يكن متكلسًا مثل أخيه الأكبر أومتهورًا كالأصغر، راضيًا في توسطهِ بين الأثنين. ذكيًا ومفعمًا بالحيوية والمرح. وتشكلت شخصية إيفان في الجامعة:

 

"كطالب في كلية القانون، فالذي سيكون عليه سيستمر معه بقية حياته، رجل كفؤ ودمس واجتماعي، ولكن سرعان ما يتحمل مسؤولية المهام التي يُلزم بها نفسه، وقد ألزم نفسه بكل الأشياء التى حددها المسؤولون في السلطة (50)".


تأكد إيفان من امتلاكه كافة المظاهر المناسبة للمنصب الذي تقلده بعد إنهاء دراسته في كلية القانون، الملابس المناسبة والياقات البيضاء وأدوات الحلاقة وغيرها. وبدلًا من أن يشكّل حياته بفاعلية، فإنه اكتفى بلعب الدور الذي أُعطي إليه. في عمله كان صموتً ومتجهمًا، بينما كان في اللعب لطيفًا و خفيف الظل. حظي بفترة شباب مرحة، ولكن بطريقة متحفظة ومناسبة "بأيادِ وملابس نظيفة وعبارات فرنسية، والأهم هو أنها وسط زبدة المجتمع، بالتالى بطريقة مقبولة في الأوساط العليا" (52). سقط إيفان بسهولة وطواعية ليلعب دورًا في النفس الجماعية للآخرين they-self. في المجمل لم يكن أصيلًا في طريقة وجوده mode of being. افتقر إيفان  إلى التأمل الذاتى و الشعور بالرغبة، فهو ببساطة ينشغل بإدامة الواقع كما هو ومحاولة التأقلم فيه. 


تسلق إيفان سلم النجاح البيروقراطي، وفي قرية ووظيفة جديدة قابل إيفان براسكوفيا فيودوروفنا زوجته المستقبلية، كانت جذابة وعائلتها صالحة ولديها القليل من المال. و بزواجه حصل إيفان على السعادة ومباركة معارفه من الطبقات العليا، فامتزج في الآخرون أكثر. وكان كل شئ على ما يرام مع زوجته، ولكن تبدلت الأمور في الشهور الأولي من أول حمل لها، فأصبحت غيورة، تطلب الكثير، وتبحث عن المشاكل. ربما لم يكن إيفان حكيما في الأختيار كان يجب عليه أن يفكر مليًا. أدرك إيفان أن الحياة الزوجية لم تفض إلي إلى السعادة التي طمحَ إليها، فألقى بنفسه في أحضان المزيد من العمل. لم ينزعج من تلك الحالة الزوجية، بل تقبلها كما يتقبل بقية الأشياء بوصفها الطريقة التى توجد عليها الأشياء.


"طمح في حياة زوجية لتُيسر له سُبلاً للراحة، طعامٌ في المنزل ومنزل يُدار بشكل جيد، شريكة في سريره، وفوق ذلك فالزواج مظهر أحترام يطلبه الرأي العام 58". 


استمر إيفان في تسلقهِ، فحصل على منصبِ جديد وانتقل هو وأسرته إلى مدينة جديدة. كان العمل هو كل شئ بالنسبة إليه، وعلى هذا الحال عاش سبعة أعوام آخري. 


يأخذنا هذا للنظر في فينومينولوجيا هايدجر. الديزاين جزء من وجوده-في-العالم  Being-in-the -world هي حالة وجدانية state-of-mind فهو الأساس الذي يبنى عليه الديزاين أهمية العالم. وتفيدنا الألمانية هنا أن الحالة الوجدانية state-of-mind هي حالة من التوجه يجد فيها المرء نفسه. يجد الإنسان نفسهُ في حالة وجدانية معينة، ويعنى هذا أننا نجد أنفسنا في حالة- وجدانية معينة يمكن أن نغيرها ببذل بعض المجهود. المزاج mood هو الطريقة الأساسية التي تكشف فيها الحالة الوجدانية state-of-mind عن نفسها، فغالبا ما نجد أنفسنا في حالة مزاجية معينة مع تفسيرات قليلة عن السبب. والمزاج mood الذي يدلل على محاولاتنا في الهروب من الموت هو ما يسميه هايدجر القلق Angst.وبينما الخوف له باعث، فالقلق Angst ليس له باعث محدد. يكشف القلق أن الديزاين لديه قدر من الإحساس بعدم وجود أساس لوجوده. ويقول هايدجر: الوجود -السائر- نحو- الموت بالضرورة قلقًا(310/265–266). واخترت هنا وفي بقية النص الكلمة الألمانية Angst القلق بدلا من الانجليزية Anxiety التوتر، ويمكن أن تستخدم كلمة Dread والتى تعنى الوجل للترجمة معنى Angst. 


توقع إيفان أن يصبح قاضيًا ولكن هذا لم يحدث. ويبدو أنه عاش حياة لا تتناسب مع راتبه فلم يستطع تدبير احتياجاته الاساسية براتبه، والذى كان راتبٌ جيدًا. وبعد انتقال الأسرة إلى البلدة الجديدة في فصل الصيف، اختبر إيفان لأول مرة المشاعر السلبية بشكل واضح. لم يسبب موت اطفاله كأبة شديدة له، ولكنه كان يمكن أن يضيع لولا إلهاء نفسه بالعمل. "في بلدة جديدة، ولا شئ يمكن فعله، إيفان إيليش يختبر لأول مرة في حياته ليس فقط الملل بل كرب لا يحتمل  (62)". حرمهُ انغماسه في الحياة اليومية في نفس-الآخرين they-self من اختبار الشعور بالقلق، وهو شعور بعدم الألفة والغربة وأنه ليس- في -المنزل والذي يشير  إلي أن المرء أدرك فنائه. لم يواجه إيفان قلقه، رغم وجوده في لُبهِ. كانت حياة إيفان متردية falling بمصطلح هايدجروصفًا الحياة الغير أصيلة، تائه في نفس- الأخرين:

التردي هو هروب الوجود السائر نحو الموت Being-towards-death من مواجهة الموت. ويتصف الوجود السائر نحو النهاية بأسلوب المراوغة في مواجهة الموت، بإضافة تفسيرات جديدة له، وفهمهُ بطريقة غير أصيلة.                 

لا يشير القلق إلى شيء جديد في طريقة حياته، بل إلي اقترابه من إدراكه أن حقيقة حياته غير أصيله حتى أصبح ذلك جليًا.


يُلقي بالديزاين في العالم مع سمات معينة ثابتة وراسخة، ولكن الديزاين يسقط و يتردى أيضًا. وتوصيف الوجود الغير أصيل بالسقوط والتردي مهمًا في تحليلنا لذهاب إيفان إلى سان بطرسبرغ وفي ذهنه إيجاد مكان كُلفتهُ خمسة آلاف روبية. استطاع إيفان إيجاد مكان أفضل مما كان في ذهنه صدفة، مما حسن من حالته المزاجية لبعض الوقت. فقد وجد شقة جيدة في المدينة الجديدة، وشرع في تجهيزها بنفسه. استحوذت عليه مهمة تجهيز المنزل حتى أصبح حتى مشتتًا في عمله. 

وقع حدثًا رئيسًا لإيفان أثناء العمل على تجهيز المنزل: فبينما يصعد على السلم المتنقل ليعلق بعض الستائر أخطأ في صعوده فسقط. وقع إيفان على خاصرته، لكن لم يعبأ كثيرًا لهذا، فقد آلمته الكدمة لمدة قصيرة واختفى الالم بعدها. تندر إيفان بطريقة ساخرة بعد ذلك على تلك السقطة، فقد كان فخورًا بما فعل من تجهيزات، ولكن الحقيقة أنها كانت عاديه:

"في الواقع كانت تجهيزات تماثل كل الأشخاص الذين لم يكونوا أغنياء، ولكنهم يُردون أن يتشبهوا بهم، وفي نهاية المطاف لا يصبحون سوي شبه بعضهم البعض….تشابهت شقة إيفان مع الآخرين لدرجة أنها لا تلاحظ، على الرغم من أنها بدت له استثنائية (66). 


رضي إيفان بحياته لفترة، فكانت حياته اليومية تسير في تناغم مع الآخرين the they "يستيقظ في التاسعة صباحًا، يتناول قهوته، ثم يقرأ الجريدة، ويرتدي زيهُ ثم يذهب إلى المحكمة" (68). فقد وجد أن عمله لم يكن مملًا ولا ممتعًا، فهو يقرأ كتاب يتحدث عما يدور، يُشغل نفسه ببعض العمل في الليل ليتجنب زوجته وأطفاله. أقام حفلات عشاء فوق مقدرته المالية بقليل، محاولًا الترفيه عن نفسه مثل ميسوري الحال، ودائما ما كان حريصًا أن يقدم شيئًا جيد. أعتقد أن مثل تلك الحفلات شيئًا استثنائيًا ولكن في الواقع كانت عادية تمامًا. يستمد إيفان السعادة من الغطرسة والعلاقات الاجتماعية من تلك الحفلات، ولكنه وجد سعادة غامرة في لعبة ورق بسيطة.      

  

سقط  falling إيفان وفق ما ذهب إليه هايدجر، سقوطًا كاملًا في عدم الأصالة أكثر من أي وقت مضى، هو ذلك المعنى الحرفي للكلمة الذي أدي به إلي تلك الحالة الجسدية أو هكذا أعتقد هو. فلا يستطيع الطبيب أن يحدد ما هي مشكلته بالتحديد، ولكننا نتسائل إذا ما كان إنعدام الأصالة يقتله!. ربما كان مرضه والذي أدي إلي موته نتيجة لمرض نفسانى نفسي جسدي. أشار إيفان إلي تلك الاحتمالية عندما كان يفكر مع نفسه وقال: هل يمكن أن يكون ذلك حقيقًا أننى هنا وفي تلك الملابس، وفي غمار أقتحام الحصون، هل فقدت حياتى؟ كم هو مريعًا وغبيًا ذلك الأمر، لا يمكن أن يكون ذلك! لا يمكن! (97). ووصف الحياة بـ"سلسلة من تصاعد المعاناة، السقوط بشكل سريع، وسرعة أكبر تجاه النهاية وهي المعاناة الأكثر رعبًا. "انا اسقط" (123). ورغم إدراكه أن حياته الساقطة كانت سلسلة من المعاناة المتصاعدة، فإنه لم يكن قادرًا على تقبل أنه لم يعش حياته بأفضل طريقة ممكنة:

لو أنني فقط أعرف سبب هذا الألم، ولكن ذلك مستحيل. ربما من المعقول أن يقول أحدهم أنه لم يعش كما يجب، ولكن مثل ذلك الإعتراف مستحيلًا، فإنه يقولها بينه وبين نفسه، يتذكر كيف كانت حياته خاضعة لكافة القوانين والقواعد والتقاليد. (123- 124)


لا يستطيع إيفان مواجهة نفسه لعدم قدرته على نقد "الآخرين" they- self فهو لا يمايز بين نفسه و

نفس الآخرين they- self. وبدلًا من مواجهة حقيقة أن حياته كانت مجرد فوضى غير أصيلة وأنه الآن يعانى من الألم النفسي وآثاره الجسمانية، فبدلًا من ذلك فإنه رأى أن كل شئ بلا جدوي وغير معقول "ليس هناك تفسيرًا، لا يوجد سوى الألم.والموت، ولماذا؟ (124)". فالقلق الذي شعر به عندما سكن القرية، كان وحيدًا بمفرده في مواجهة ذلك الشعور. فما هو ذلك الشعور؟ الموت، الشعور بالموت الوشيك، القلق - بالمعنى الهايدجري. لم يستطع ولا يرغب في تسمية ذلك الشعور، أنه ببساطة الموت. 





                                                   (2)  



يتحدث هايدجر عن" “reticent self-projection upon one’s ownmost Being-guilty, in which one is ready for Angst” (343/297). فالإحساس بالذنب يمكن أن يوضح ويؤكد على قلقي، ويمكن أن يؤدي بي إلي وجودً أصيل.تحمل كلمة gullit" الشعور بالذنب" و التى تسمى بالألمانية Schuld دلالة على الإحساس بالدَين. ومع الشعور بالذنب ارى أن الماضي شيئًا انا مسؤلًا عنه. وللماضي الذي الذي أِشعر بالذنب تجاهُ دينً وتأثير على حاضري، على الرغم من أنه لا يكون سببًا فيه. إيفان وحيد تمامًا، ومصابًا بالإحساس بالذنب لشكل تأثيره على الآخرين: 

غادر أصدقائه المنزل بعد العشاء، تاركين إيفان وحيدًا مع حقيقة أنه حياته اصبحت سامة وتسمم حياة الآخرين، وكان أبعد ما يكون عن التحسن، فكان السمُ يخترق وجوده بشكل أعمق بمرور الوقت (83). 


لاحقا يتخيل إيفان نفسه في محاكمة واقفًا أمام القاضي ويصرخ: 

"لكنني لستُ مذنبًا، لما كل هذا؟! … لماذا كل هذا الخوف؟ ما الهدف من وراء هذا؟ ولكن الطريقة التي يفكر بها لا يمكن لها الوصول إلى إجابة. وعندما تباغته فكرة أنه لم يعش حياته كما يجب، يستدعى فكرة مدة صلاح كل حياته، ويرفض تلك الفكرة الغريبة (120)." لا يستطيع إيفان مواجهة فكرة أنه عاش حياة غير أصيلة، ولكن على الأقل بدأت الفكرة بالتلاعب بعقله.


أطلق هايدجر مصطلح "نداء الضمير الوجودي" وهو قادرًا على إعادة تموضع الديزاين، يقف الديزاين في مواجه نفسه ويدرك بطريقة واقعية أنه يقف وحيدًا. ربما أن ينتمى الديزاين إلى جماعة أو آخري، ولكنه في النهاية يموت وحيدًا. يري إيفان أنه على وشك الموت، وفي حالة دائمة من اليأس ولكنه لم يستطع أن يدرك ما الذي يعنيه هذا. فهو يفكر وفقًا للقياس المنطقي: 

كايوس رجل، وكل الرجال فانون، لهذا فإن كايوس فان، بدا ذلك وجهيًا له كما انطبق على كايوس، ولكن ليس ليس على نفسه بحال من الأحوال. فـ كايوس في المثال شئ مجرد، الاستدلال يبدو سليم تمامًا ولكن إيفان لم يكن كايوس، وليس رجلً مجردًا (93). 


رجع إيفان ليتأمل فترة طفولته والحياة السعيدة التي عاشها كطفل يلعب الكرة، يقبل يد والدتهُ. لم يفعل كايوس الذي في المثال كل تلك الأشياء، لم يكن إيفان الصغير يدرك هذا لولا حقيقة أنه سيموت؟ فكما يقول" لو أننى كنت متوجهًا نحو الموت مثل كايوس ربما كنت ألفته وعرفته، ربما يخبرنى صوت داخلى. ولكنى  لم أكن واعيًا يومًا بشئ مثل ذلك" (94). بدأ "صوت الضمير الوجودي" يتحدث إليه: 


"يدور السؤال بخلده مرارًا، ماذا تريد؟ فيُجيب: أن لا أعانى، وأن أحيا… يسأله صوت بداخله: أن تحيا؟ كيف؟ لأعيش كما عشت من قبل بسعادة وسرور"(118).  لم تعد حياته الماضية ذات أهمية عند التفكير فيها:"تبدو الآن كل اللحظات المميزة في فترة حياته الهانئة مختلفة تمامًا، عدا تلك الذكريات الأولي للطفولة. كان هناك ثمة شيئا سعيدًا طفولته…لكن الشخص الذي اختبر تلك السعادة لم يعد موجودًا. كما لو أنه يسترجع ذكريات شخص آخر"(119).


نظر إيفان إلي فترة ما بعد الطفولة كأنها شيئًا غير مميز علي أي حال، فلم يأخذه تسلقه إلى الأعلى: "كان الأمر وكأنى انحدر بثبات بينما أتصور أنى أتقدم" (120). كان قد بدأ يرى الحياة كشئ فارغ وبغيض، حينئذ ظهر له ما يمكن أن يُلقي عليه المسؤولية:"ربما لم أعش كما يجب" "ولكن كيف ذلك وقد فعلت كل شئ كان من المفترض أن أقوم به؟!" (120). وفي الواقع، كل فعل كان من المفترض القيام هو كان المشكلة بالتحديد. فقد عاش كما يعيش الآخرون، ليس فقط في العمل و الهوايات والسلوك، ولكن في نتصلهِ من الموت. فلم يكن يومًا أصيلًا. 


لا يمكن تغيير ماضي إيفان، ولكن بما أن ماضيه لا يحدد مستقبله، إذن كيف يمكن مواجهة المستقبل؟ وإجابة هيدجر هي ما يسميه "العزم" أو التصميم “resolve” or “resoluteness” حيث أنها خطوة أستباقية. فكما يقول هيدجر:" “Self-projection upon [Dasein’s] ownmost being-guilty, in which it is ready for Angst—we call ‘resoluteness’” (343/297), and “Angst merely brings one into the mood for a possible resolution” (394/344). فالديزاين هو مواجهة المستقبل ممتلئًا بالشعور بالمسؤولية والاستباقية. 

بالفعل كان إيفان عازمًا ومصممًا ولكن في فترة بحثه عن عمل في سان بطرسبرج، ولكن عزمهُ لم يكن بالمعنى الهايدجري. فهو لم يتحمل مسؤولية ماضيه ولا يكن أستباقيًا بشكل أصيل، بمعنى أنه يملك وجوده بالشكل الذي يجعله يمضي قدمًا. فهو كان يسقط على الرغم من اعتقاده أنه كان يرتقي. فكما أوضح هايدجر:" “resolute Dasein has brought itself back from falling, and has done so precisely in order to be more authentically ‘there’ in the ‘moment’ as regards the Situation which has been disclosed” (376/328).

فلم يكن إيفان عازمًا بذلك المعنى. 


تقلب إيفان في فترة مرضه بين التسليم والإنكار بحقيقة موته الوشيك، فضلا عن تقلبه بين الرفض والقبول بحقيقة أنه لم يعش حياة أصيلة. كما إننا نتوقع أن المحيطين به موجودين في شكل النفس الجماعية they-self، فزوجته وطبيبهُ وأصدقاءه يفرون من مواجهة الموت. فهم لا يتقبلون حقيقة موت إيفان الحتمية، و يشجعونه على الهروب من تلك الحقيقة. بدأ إيفان يرى عدم أصالته واستطاع رؤية عدم أصالة الآخرين بوضوح:"لم يسمم حياة إيفان الأخيرة كما فعل زيف نفسهِ والمحيطين به" (تولستوي 105). لم يتقبل حالة إيفان الصعبة بصدق وصراحة سوى جيراسيم الخادم، وڤاسيا ابنه الأخير. لم يجد إيفان الراحة بين الأصدقاء سوي مع جيراسيم:

"ربما يكون الأمر مختلفًا بعض الشئ إذا لم تكن مريضًا، ولكن هذا هو الحال، لماذا لا أقوم ببذل المزيد من الجهد؟. كان جيراسيم الوحيد الذي لا يكذب، وكل شئ يفعله يشير أنه الوحيد الذي يدرك ما يحدث، ولذلك فلم ير حاجة لاخفاءه، فقد كان مشفقًا على سيدهِ الضعيف الضائع" (104).


                                                   (3)       


تأمل إيفان في حياته، وفي النهاية وجد أن حياته التي عاشها لم تكن أفضل شكلٌ ممكن.         

"ماذا لو كانت كل حياتى، وبالتحديد فترة حياتى الواعية غير حقيقة؟ ترائي له ما لم يتصوره من قبل- أنه لم يعش الحياة التى كان يجب أن يعيشها، وفي الحقيقة أن ذلك صحيحًا…فمهامة الأساسية، وأسلوب حياته وأسرته والقيم التى يلتزم بها ووظيفته، كل تلك الأشياء ربما لم تكن شيئًا حقيقًا" (126-7). 

نظر إيفان إلي زوجته وأبنته كجزء من الحياة التي عاشها، ولكن الأمر لم يكن بتلك البساطة "لقد رأي نفسه في زوجته وابنته، كل ما عاشه، رأي بوضوح أن كل هذا لم يكن حقيقًا وأنه عاش في فزع ووهم خادع منعه من الحياة والموت على السواء" (127).  



أصبح السؤال النهائي هو هل يمكن لإيفان أن يجعل من "حياته شيئًا حقيقيًا" ذات وجود أصيل في الوقت المتبقي من حياته. فهو لا يزال متشبثًا بصورة متداعية بافتراض أن حياته كانت جيدة، على الرغم أنه أصبح أكثر وضوحًا له أن الامر لم يكن كذلك. يصف إيفان حياته وكأنه يغرق في ثقب أسود، ولكن ثمة هناك تغيير:"رغم غرقه في ذلك الثقب، فقد كان هناك شيئًا يبرق في الأسفل" (123). في النهاية قد ظهرت له حقيقة "نعم، لقد كان كل ذلك غير حقيقي. ولكن لا يهم، لازلت أستطيع أن أشيد أشياءًا حقيقة - نعم أستطيع. ولكن ما هي الأشياء الحقيقة؟" (132). يقول هايدجر:"القلق يُفرد المرء" وذلك التفرد يعيد الديزاين من حالة السقوط، ويكشف له أن الأصالة وعدم الأصالة هي أمكانيات لوجوده" (235/191)


وافق إيفان في مناقشة مع زوجته على آداء بعض الطقوس الدينية، ولكن ليست الطقوس الأرثوذكسية هي التي ستحميه، فرغم التحسن المؤقت فإنه سيرتد مرة آخري إلي عدم الأصالة. فالديانات المنظمة وطقوسها هي مهرب وملاذ للنفس الجماعية they-self، فعلي إيفان أن يجد سلوى أصيلة من نفسه لتجاوز الشعور بالذنب. 

رغم قصور الكلمات، فقد سامح إيفان عائلته وسامح نفسه. وليس أداء الطقس الذي حثهُ على التحدث حول الأصالة، ولكن قُبلة من ابنه ڤاسيا. لقد توقف الألم. سأل إيفان نفسه "والألم؟" "إلى أين ذهب؟" "أين ذهبت أيها الألم؟". لم يكن ذلك التغيير جسمانيًا فقط، بل نفسيا أيضًا. "لقد بحث عن خوفه المعتاد من الموت ولكنه من يجده. أين الموت؟ وكيف الموت؟ لم يكن هناك خوف لأنه لا يوجد موت" لقد تحرر ليس فقط من الألم والخوف والموت، ولكنه أيضًا تحول إلي حالة روحية ولكن ليست بالمفهوم الديني. لقد أصبح أصيلًا، لكن ليس بالمعنى الهايدجري:"صرخ إيفان وقال: هنالك نورً بدلًا من الموت، هذا كل شئ، يالها من نعمة. حدث كل هذا في لحظة واحدة، ولكن دلالة ما حدث باقية" (133). لقد شُفي إيفان:"قال لنفسه لقد انتهى الموت، ليس هناك أكثر من الموت، آخذ إيفان نفسًا واحدًا ولم يتبعه آخر، ثم تمدد ومات" (134). رغم أن مفهوم هايدجر للأصالة لا يتفق مع إنكار الموت، ولا يقدم أي وعود بنعمة مثل التى شعر بها إيفان، ولكن مفهوم الأصالة لدى هايدجر يمكن أن يشمل على "مرح لا يتزعزع" (358/310).


تشير بداية القصة إلي صدق تحرر إيفان وهو على فراش الموت. ويقول الراوي في وصف الجسد:    

"تحول وجه إيفان معبرًا عن جمال فائق- يفوق كل شئ رأه في حياته. تعبيرٌ يحمل ضمنيًا التأكيد على أن ما كان يجب فعله قد تم، وتم بشكل صحيح (39-40).


يتيح الموت النظر إلى الديزاين بصورته الكلية، ورغم أن الصعود إلى عدم الأصالة كان قاتلًا لإيفان، ولكن العزم resoluteness الأصيل أنقده قبل مواجهة الموت، وهكذا تكون مهمته الحقيقية والوحيدة قد أنجزت. 

  

يشير هايدجر إلي أن أهمية القبول بحقيقة الموت الحتمية ليست في الانشغال المرضى بالموت، فالتأمل في الموت لا يعنى أن نصاب بالاكتئاب والخوف من كل فعل وتصرف، ولكن على النقيض تمامًا، فتقبل الإنسان لموته الحتمي يجعل من وجوده أصيلًأ. فبامتلاكنا وقبضنا على حقيقة أننا لا يمكننا تجنب الموت نستطيع أن نكون أنفسنا. فلسنا بحاجة لننتظر لأن نكون على فراش الموت لنتحدث مع أنفسنا، لماذا علينا أن ننتظر؟   



الخميس، 4 يناير 2024

نيتشة وفن تناول الطعام - وليم إيرون

 

كتب موقع أمريكيًا ساخرًامتهكمًا على حمية اتكينز"حمية غذائية نيتشوية جديدة تجعلك تأكل كل شئ تخاف أن تأكله" وحوّر الموقع جملة نيتشه (1844-1900) الشهيرة "قد مات الإله" إلي شعار منخفض النشويات "قد ماتت الدهون" theonion.

ينطق اسم نيتشه عادة بصورة خاطئة فـ "nee-chee" ني تشي، والصحيح هو أن ينطق"nee-ch-ya" ني-تش-يا على وزن ta meetchya نا-ميتشيا أو إيتشيا.

وبعيدًا عن المزاح فإن هناك رابطًا جدير بالملاحظة بين أتكينز ونيتشه الذي كتب"معدة المرء هي السبب الذي يمنع الإنسان من عبادة نفسه". اهتمت فلسفة نيتشه الاستثنائية بالحياة وبالتالي ألقت الضوء على حمية أتكنز وكل نظام رعاية خاص بالجسد والعقل.   



 "كيف يصبح المرء على ما هو عليه"                


أشترت الفلسفة بأنها غير عملية، غير عابئة بالأشياء التي تهم الإنسان حقًا، والطريقة التى يحيون بها. لم يتحدث معظم الفلاسفة حول الطريقة التي يجب على الإنسان أن يأكل أو يتدرب أو يسكن، سوى نيتشه. فيقول نيتشه "تلك الأشياء الصغيرة مثل الطعام والمكان، والمناخ والدعة أكثر أهمية من أي شيء آخر بشكل لا يتصوره المرء". ولكن لماذا أعتقد نيتشه في أهمية تلك الأشياء الصغيرة؟ "لأن على الإنسان أن يتعلم كيف يعيش". كان نيتشه من أكثر فلاسفة العصر الحديث اهتمامًا بجعل الفلسفة تتناسب مع الحياة، وكيفية جعل الفلسفة طريقة وأسلوبًا في الحياة. فقد كان منزعجًا من الفجوة بين الفلاسفة الحديثين والحياة اليومية، وعدم ارتباط الفلسفة بحياة معظم البشر، وقد آسف لذلك بقوله"لا أحد يستطيع تطبق كل قواعد الفلسفة على نفسه، لا يمكن العيش فلسفيًا، بشجاعة مستمرة مثل التي عاش بها أحد القدماء في كل مناحي حياته أيا ما كان يقوم به، فهو يتصرف كرواقي بمجرد تصديقه في ستوا Stoa". 


تتوافق وجهة نظر نيتشه مع الفلسفة الرواقية بوصفها"فن العيش" ويذهب إلي أنه هدف الفلسفة أن تكون حياة الفرد عمل فنى. فكان عنوان كتاب "هذا هو الإنسان"  الفرعي "كيف يكون الإنسان نفسه"  رأي نيتشه في هذا الكتاب كما في كل أعماله أنه ليس بالضرورة أن  الطبيعة أو التنشئة هي ما تكوّن الإنسان وتجعله ماهو عليه، فتلك القوى تسيطر علينا لا طالما لم تكبح جماحها. "كما لو أن  الحياة ليست بحرفة يتم تعلمها من البداية وممارستها باستمرار دون هوادة كما وإلا تصبح مرتعًا للزواحف الفاسدة والثرثارة". ولكن فنحن لنا سلطة على حياتنا، لنحتها وتشكيلها ونتحكم بها كما يتحكم الروائي في شخصيات روايته. يقول ألكسندر نحماس "تؤسس وحدة الذات الهوية، فهي ليست تمنح مسبقًا ولكن تُحقق، فهي ليست المبتدأ ولكنها الهدف النهائي"

فيقول نيتشه: نريد أن نصبح شعراء لحياتنا بداية من المسائل الصغرى وصولا لكل أمورنا اليومية". وبما أن الفلسفة هي فن العيش الذي يهتم بدقائق وتفاصيل إشكالات حياتنا اليومية فهذا بالطبع يتضمن فن تناول الطعام. فيقول نحماس

 "فالحالة المثلى هي ائتلاف كلي متماسك ورغبة في أن يصبح المرء كل شئ هو عليه، وإضفاء أسلوب على شخصية الفرد لأن يكون" 



 الجوع:



سخر وودي آلن متسائلًا "لو هناك مشكلة بين الجسد والعقل، فأيهما تختار؟". مثل هذا السؤال سهل بالنسبة إلي نيتشه، فمن الأفضل من وجهة نظرة الإبقاء على الجسد، فهو يقول"أنا جسد فقط، أما الروح فهي مجرد كلمة تشير إلي شئ في ذلك الجسد". ليس علينا القبول بوجهة نظر نيتشه حول موقفه من الروح والجسد، فميتافزيقا كيفية اتصال الجسد والعقل أو ما تسمى معضلة العقل والجسد هي اتجاه نظري، ولكن الاتصال بين العقل والجسد حقيقة وآلية كيفية التواصل بين الاثنين هو اتجاه عملي. فهو ليس موضوعًا يحظي باهتمام المفكرين فقط، فنحن لا نهدف إلي معرفة كيف للعقل والجسد التواصل لإضافة معلومات جديدة لكتب المعرفة، ولكننا نريد معرفة ذلك لأنه من خلالها يمكن إحداث فارق من خلالها. عبر نيتشه عن ذلك بقوله "أنا مهتم بتساؤل حول تحرر الإنسان أكثر من أي سؤال لاهوتي يُقتنى كتحفة قديمة على سبيل المثال التساؤل حول تغذية المرء….فكيف لك من بين كل البشر أن تأكل لتمنح أقصى قدر من القوة للفضيلة على طريقة عصر النهضة مجردة من الأخلاق؟". لتجعل من حياتك عمل فني ليس عليك أن تفهم معضلة العقل والجسد أو أن تقدم إجابات للمعضلات اللاهوتية مثل "كم عدد الملائكة التى يمكنها الرقص على مقدمة دبوس؟" لقد أصبحت الفلسفة من وجهة نظر نيتشه منشغلة بالأمور المجردة التى لا تقدم شيئًا بشأن كيف للمرء أن يكون، فمن المهم جدًا الانتباه إلي ما يأكله المرء وملاحظة الاختلاف تأثير الأطعمة على فاعلية الإنسان. 

فالطعام هو وقود لما نكونهُ، فإننا الفنانون والعمل الفني في الآن نفسه. لنتخيل مثلًا أن أرنولد شوارزنيجر تبع حمية اتكينز الغذائية ليجعل من نفسه العمل الفني الذي هو عليه، إلي جانب قيادته للدراجات النارية من نوع هامر وهارلي، وتناول اللحوم الحيوانية الابتعاد عن أطعمة "الرجال المخنثين" على حد وصفة مثل الكعكات الدسمة، كل هذا اضفي الكثير إلي شخصيته. 

  

يجد الكثير أن الكميات العالية من الاندروفين التى يفرزها الجسم خلال ممارسة الرياضة مفيدة في لصحة مشاعرهم فضلًا عن إفادتها لصحتهم الجسدية، وكذلك من عانوا من إدمان النشويات أو إضطراب في سكر الدم يجدون حمية اتكنيز الغذائية تنقص من أوزانهم وتخفض من مستوى الكوليسترول في الدم بالإضافة إلي ذلك فإنها ترفع من معنوياتهم. اعتبر نيتشه النظام الغذائي المتوازن وعملية الأيض عامل رئيسي في لبلوغ أقصى درجة من الأداء الذهني والروحي، معتبرًا أن الروح هي من وظائف عملية الأيض. "تتناسب وتيرة الأيض مع حركة أو سكون الروح، فالروح هي جانب من جوانب عملية الأيض" 


يتعهد اتكينز بأن نظامه الغذائي "يمدك بالطاقة بشكل تلقائي". فسيجد الأشخاص الذين يشعرون بجوع دائم وعادة ما يكون جوعًا مزاجيًا ذلك النظام مرضيًا ومتزن. ولكن ما سبب شعورهم السيئ في السابق؟ يحول الجسم النشويات إلى سكر ليحصل على الطاقة، وارتفاع نسبة السكر في الدم تعطى إشارة إلي البنكرياس يفرز المزيد من الأنسولين، فيؤدي إلي خفض نسبة سكر في الدم. ولكن المشكلة أن تلك العملية لا تظل تعمل بشكل مثالي خاصة مع مرور الوقت. ونتيجة لانخفاض مستوى السكر في الدم بشكل كبير فنشعر بالجوع مرة أخرى. ليست غريبة علينا تلك الظاهرة فنختبرها في عندما نأكل الحلوى. ويصف اتكينز ذلك بقوله"نتيجة لتلك العملية يضطرب مستوى السكر في الدم والذي عادته يسبب الإرهاق والتعب والضباب العقلي والارتجاف والصداع" 


  الكثير من الذين لديهم رد فعل مبالغ من الأنسولين و تأثير عكسي للسكر، بحيث تتحول النشويات إلى سكر فليس القليل كالكثير. فنحن نكون أفضل مع الأطعمة التى تحرق بشكل أبطئ والتي هي الدهون والبروتينات. بعد ثمانية وأربعين ساعة من تحلل الدهون، يصبح حرق الدهون من أجل الحصول على طاقة والتي تسمى مرحلة  الحث في حمية اتكينز "يسيطر الجسم على الجوع ويقلل الشهية تجاه الطعام".

ومن خلال تجربتى شخصية، منذ كنت مراهقًا وأنا اظن أن هناك شيئًا خاطئًا في حميتي الغذائية، لأنى كنت أصبح أسعد عندما أكل بشكل مختلف، كنت أشعر بالإرهاق كثيرًا والكسل ويكون مزاجي سيئًا. ولكن الغريب انى كنت اختبر الجوع في عقلي أكثر من معدتى، فكنت لا أريد إيقاف قرقعة معدتى، ولكنى أردتُ أن أتخلص من الغيوم التي في عقلي. كنت أعانى من فترات اضطراب وعصبية وسئم وكان الطعام الشئ الوحيد الذي يمكنه إصلاح ذلك. 


حدث شيئًا عجيب عندما بدأت حمية اتكينز: فكنت لا أِشعر بالجوع، كانت المرة الأولي التي اتبعُ فيها حمية غذائية ولا أشعر بالجوع، و رغم قرقرة معدتى بعد الوجبات بساعات لكنى كنت أشعر برتياح. فكنت لا أحتاج أن أكل للتخلص من الغيوم التي في رأسي والحصول على جرعة من الدعم المساعد على الاستمرار. استقر مستوى سكر الدم بعد أن كان مثل لعبة اليويو، فكان في "منطقة آمنة" بمصطلح حمية قليل النشويات "اللوكارب". كنت اتمرن بشكل يومي لسنوات  بدون خسارة أي وزن ولكنى كنت مستمرًا لانها تحسن من حالتي النفسية والعقلية، والآن أصبحت حمية اتكينز تقوم بالدور نفسه. تقوم حمية اتكينز من التهدئة السريعة من المشاكل الشائعة مثل الإرهاق المزمن والعصبية والاكتئاب ومشاكل التركيز والدوار والأرق. بشكل شخصى، نمت بشكل أفضل ولم أعد أصاب بحرقة المعدة وعسر الهضم، ظننت أنى ربما كنت مصابًا بحساسية من بعض الأطعمة وشفيت من ذلك، ولكن دكتور اتكنز أوضح أن"الكثيرون مثلك، خاصة من من تجاوزوا الأربعين، فأهم ما وجدوه هو تأثير ضبط الكمية المتناولة من النشويات وارتباطها ببعض الآلام الجسدية والصداع والأوجاع والتى اختفت بعد ضبط كمية النشويات".  لم أكن مهتما بأن افقد وزن ولكنى فقدت، فبعد سنتين من الاستمرار وصلت إلي 165 باوند بعد أن كنت 187 باوند، والأكثر هو انخفاض مستوى الكوليسترول بشكل كبير. فصار جسدي يقدم أفضل ما لديه وأنا مستمر على حمية اتكينز.


يقدم بعض الفنانون محدودي الموارد أعمالًا عبقرية، ولكن نيتشه يعرف أن عليه تكسير البيض ليصنع أومليت. تبنى باري سيرز حمية منخفضة النشويات "لوكارب" وأعتبرها منطقة آمنة، وشجعنا على أن نتصور ماهية "الشعور بخير" ليس بوصفه غياب للمرض، ولكن التأدية بأقصى فاعلية ممكنة. فكما يقول"في المنطقة الآمنة حمية منخفضة النشويات "لوكارب" ستتمتع بأفضل أداء جسدي:التحرر من الجوع، طاقة هائلة وأداء جسدي وايضًا تحسن التركيز الذهنى وزيادة انتاجيته." يتوافق ذلك مع مثل لاتيني يقول"العقل السليم في الجسم السليم". وأشار نيتشه من قبل إلي أنه لتحقيق أقصى أداء ممكن ونصبح من خلاله عملًا فنيًا من صنع أنفسنا، يعتمد  ذلك بشكل جزئي على تبني نظام مناسب ومتوازن ودقيق. "تباطؤ حركة الأمعاء كافي تمامًا إذا لازم المرء أن يحوله من عبقري إلي شخص محدود الموهبة". أيضًا يمكن أن نفكر في تونى سوبرانو الذي أكل في طريقة كل قطعة جاباجول وفتاة ولص، رغم ذلك فهو عمل فني، كان لدي تونى الكثير القلق ناهيك عن التردد وفقدان الوعي.  




 يجب على المرء معرفة حجم معدته


يقول بعض الرافضين "أن الأمور لا تجري بذلك الشكل" ولكنها كذلك بالفعل، لقد شعرت بشعور جيد وفقدت وزنًا حتى لو قال بعض الناس أنه لم يحدث. كان أفضل شيئًا في حميتى من وجهة نظرى أنها تلائم طبيعتي المختلفة. يؤكد نيتشه على أننا يجب نوحد دوافعنا ورغباتنا لنخلق من أنفسنا عملًا فنيًا. كانت تجربتي مع حمية اتكينز على العكس تمامًا من الحميات "قليلة الدهون" التي جربتها من قبل التى جعلتنى غريبًا عن نفسي وشاعرًا طوال الوقت بحاجتى إلي المزيد من الطعام، أما مع اتكينز فشهيتى للطعام أقل ونحف خصري أصبح جسدي أكثر تجانسًا.


ربما لا تكون حمية اتكينز مناسبة للجميع، ولا مشكلة في ذلك، فلم يلقي نيتشه القبول من الجميع، وكذلك اتكينز لا يجدها الجميع مناسبة لشخصيته. ربما  يصبح أرنولد شوارزنيجر على ماهو عليه أكثر إذا تبع حمية اتكينز، بينما تونى سوبرانو لا يمكن أن يتبع حمية اتكينز بدون أن يتغير عما هو عليه. سلم نيتشه باختلاف الشخصيات والأجساد، فكانت المهمة الرئيسة هي التعرف على جسده، وردة فعله على مختلف الأطعمة والمشروبات. "على المرء أن يعلم حجم معدته". أقترح نيتشه عند حديثه حول تناول الفرد للشاي، أنه على المرء أن يجد ما يفضله. "كل إنسان لديه معياره الخاصة، بين أضيق الحدود وأكثرها رحابة". أعتقد نيتشة أن أكثر الأروح ابداعًا هي الأكثر تمايزًا توازنا. وفيما يتعلق بالغذاء فقال"كلما أرتقت الروح في مراتب التفرد، كلما كانت الحدود المتاحة أضيق". لذلك فالمنخرطين في جعل من حياتهم عملًا فنيًا يجب أن ينتبهوا لما يأكلونه. 


ليس جميعنا يعاني من السمنة، ولا ليست جميع أجسادنا تتشابه في رد فعلها على تناول النشويات، لذلك حمية اتكينز ليست تصلح للجميع. هناك فرق بين من يحتاجون حمية اتكينز وبين من يجدونها مناسبة لهم، فمستوى النشويات التي عندها يكون المرء ثابتًا لم يعد يزيد أو يخسر وزنًا تختلف من فرد إلي أخر. 


وفي محاولاتي النشوية لتقديم عملًا فنيًا مدعمًا بسردية كافية بالنسبة لى للقول بأن حمية اتكينز تستحق التجربة من أجل العقل والمشاعر والجزء السفلي من الجسم. وحتى الآن تؤكد النتيجة على ما ذهبت إليه. فعلى المدى الطويل من الممكن إثبات خطئي فيما أعتقد الآن أنه صحيح، لذا اكملت مع استمرار ملاحظة وزنى ومزاجى ونسبة الكوليسترول الخ. واهتممت بالتقارير الطبية، ولكن كان اهتمامى موجهًا أكثر تجاه جسدي متبعًا نصيحة نيتشة.   




 كطريقة في العيش:



فهمَ نيتشه الفلسفة بوصفها طريقة في العيش، أما اتكينز فهى طريقة في تناول الطعام، وليست حمية مؤقتة، لم يدرك الكثيرون تلك النقطة. فعندما سألني الطبيب كم المدة التي ستستمر على تلك الحمية؟ فقلت له مدى الحياة، فهى ليست حمية قاسية وسريعة لخسارة الوزن مثل معظم الحميات الآخر الشائعة. تعني كلمة "diet" حمية أو نظام وأصلها لاتينى بمعنى الروتين اليومي أو طريقة العيش. فهى طريقة في تناول الطعام يوميًا، ليس فقط على المدى القصير أو خطة صعبة على المدى القصير. 


ليس كل ما هو طبيعى دائمًا جيد بالضرورة، ولكن عندما يخفق الغير طبيعى يصبح تجربة الطبيعى فكرة جيدة. إذا قبلنا ما أنتجته ظروف التطور البشري كأمر طبيعي، فإن العيش بشكل جيد على نظام أتكينز يعني إعادة تعلم ما الذى نأكله، والتعود على التخلي عن معظم ما هو غير طبيعي لصالح ما هو طبيعي. تتلاءم أجسامنا مع نمط الحياة البدائي المعتمد على الصيد. فيمكن لنا أن نسأل أنفسنا: إذا كنت أعيش في غابات أفريقيا، عاريًا وحاملًا رمح مدبب هل كنت سأحصل على نفس الطعام الذي آكله الآن؟. فنحن نحتاج إلي المزيد من ممارسة الرياضة والطعام الطازج. بالتأكيد أن الفواكه والخضار جيدين ولكن، الدهون والبروتين كانوا الجائزة التي حازها أسلافنا.

 لم يؤمن نيتشه بمصطلحات مثل "الطبيعي" "الخير"، فقد كان يجابه مثل تلك المفاهيم، وقال بأنه ضد النباتية من خلال تجربة له، ويري أن هضم وجبة دسمة أسهل بكتير من الوجبات الصغيرة. بالطبع يمكن الجمع بين الحمية النباتية وحمية اتكينز، ولكنه صعب. وبينما يمكن للمرء أن يجد أسبابًا أخلاقية ليكون نباتيًا، ولكن الطبيعية ليست من بين تلك الأسباب، فعلى سبيل المثال، المجتمعات البدائية كان لا يمكنها النجاة من فصل شتاء، ناهيك عن شعوب الاسكيمو. 


لا يوجد في حميتنا الغذائية مكان للحبوب المصنعة والسكر الصناعي، فالحبوب المصنعة والعيش ظهروا في نظامنا الغذائي منذ أقل من عشرة آلاف سنة، فلم يتعود عليهم التطور البشري حتى الآن ومن المحتمل ألا يحدث. فنحن فى حمية اتكنيز نأكل ما تطورنا وتلائم جسمنا على أكله. النشويات المكررة ليست طبيعة أكثر من الكحول ويمكن أن تؤدي إلى الإدمان ايضًأ. يجب أن نتعلم أن نستمع إلي أجسامنا، لأنه عندما نأكل بشكل غير صحيح لا يفشل الجسم من العمل بشكل مناسب. فأولًا يجب أن نجد المشكلة ثم نحلها، كما يقول نيتشه"لكل منا مثاله: فعلى المرء ضبط فوضاهُ الداخليه من خلال التفكر فى احتياجاته الحقيقة". ولكي نكون متناغمين مع جسدنا فعلينا الإستماع إلي ما يقوله فهذا طبيعى. فنحن نحتاج إلي أن نتعلم أنه عندما نأكل بشكل منضبط فإننا لن نشعر بالجوع مرة أخرى بعد مدة قصيرة. ونحتاج إلي تعلم أيضًأ يمكن أن نأكله فيشعرنا بالشبع، وليس الامتلاء، فمن السهل تناول الكثير من الحلويات ولكنه من الصعب تناول الكثير من اللحوم. يرسل الجسد إشارة إلي العقل عندما نتناول قدرًا كافي من الأطعمة المناسبة. فنحن نحتاج إلي أن نستمع ببساطة إلي جسدنا. 

         


ومثلما يحدث في كل الحميات، فيكون هناك محاولات لكسر الحمية، أو بمصطلحات نيتشة "العيش الخطير". ولكن بالنسبة للكثيرين فإن التعب الجسدي أقوي بكثير من الشعور بالذنب في تحفيزنا للحفاظ على الحمية. في الواقع، يعتقد دكتور اتكينز أن السبب الذي يجعل أكثر من نصف مرضاه مستمرين ومحافظين على الحمية ليس خسارة الوزن (وهم يخسرون وزنًا بالفعل) "ولكنهم يشعرون بما هو أسوأ إذا توقفوا عن الاستمرار في البرنامج". كتجربة شخصية، عندما توقفت عن الحمية وأكلت حلوي في المطعم شعرت أننى لست بخير، وفي صباح اليوم التالى أصبت الصداع والأهم اننى عدت الشعور بالجوع القديم، فكنت أبحث عن الطعام مثل محتفل ثمل يبحث عن شعر الكلب الذي عضه. وصف اتكينز  تفقدنى قنبلة السكريات عند تحولها إلي نشويات توازنى. ويقول"يقول العديد من المرضى أنهم لما امتنعوا عن أكل الأطعمة السريعة لشهور مع الاستمرار في حمية اتكينز فإنهم تعافوا من الاضطراب الذي كانوا يعانوا منه عند تناولهم تلك الأطعمة". وعلى عكس مدمنو الكحول فإنهم إذا تناولوا شرابًا من حين إلي آخر يمكن أن يعودوا إلي الإدمان مرة أخرى، فمن هم على حمية اتكينز يمكن لهم تناول وجبة خارج النظام من حين إلي آخر دون السقوط في الهاوية مرة آخري. هناك الكثير يمكن أن نستفيده من تجربة اختبار الألم والضيق فى الفترة التى نتاول وجبة غير متضمنة في النظام الصحي. فقد رأي نيتشه أنه ليس فقط يمكن أن نتعلم من اختبار الألم ولكن يمكن ان نستعمل تجربة ضعفنا استعامل إيجابي في خلق عملًا فنيًا من أنفسنا.  فيقول"شيئًا واحد وضروري لبناء طراز للإنسان، وبزوغ شخصيته وجعلها عملًا فنيًا عظيمًا ونادرًا، هو استقراء للقوة والضعف لطبيعة الإنسان وجعلها مناسبة لمسار فنى، عند يبزغ الإنسان كعمل فنى عاقل، فحتى رؤية الضعف تبهج العين". 


هل كان نيتشه يتبع حمية اتكينز؟


انتقد نيشة معظم الفلسفات السابقة له لمطلقاتها في شكل "يجب أن تقوم بكذا" و"لا تقوم بكذا"، فحاول تجنب ذلك عند تقديمه لفلسفته بصرامة. فمن البديهي ألا يدعوا نيتشه حمية أتكنيز لكل البشر، ولكنه لو عاصرها لم يكن يعارضها. لقد كان في الواع مغرمًا بمعارضة الطرائق التقليدية في النظر و الأداء للأشياء، فربما لكان يجد ما يروق له في حمية اتكينز.  


وفي الختام، وفي خضم شعورك بالاستحسان لما أنت عليه من عمل فنى وأنت ملتزمًا بحمية اتكينز، كن حريصًا على معرفة الذات الذي كان الشاغل الرئيسي لنيتشه. بأي قدر تعرف نفسك جيدًا؟ لأي مدى تستمع إلي جسدك؟ فكما قال نيتشة ناقمًا "لم يعرف الإنسان نفسه فزيولوجيًا، فهو لم يعرف نفسه حتى الآن"