الثلاثاء، 5 ديسمبر 2023

ما الذى نناضل من أجله؟ روجر بيركوفيتش - ترجمة: عبدالرحمن الهندي

تلمس نيتشة جذور أزمتنا الثقافية والسياسية عندما أعلن "موت الاله"، وإلي جانب ذلك فقد قتلنا أيضًا العدالة والحقيقة. نقول أننا نٌعلى من شأن العدالة ولكننا نختار الراحة والمردود فقط، ندعى أننا نحترم الحقيقة ولكننا نسعى إلي ترابط خيالى، فنأمل المستحيل في عالم لا يمكن التنبؤ به.  المساواة هي ما نؤمن به ولكن الأحادية هي ديننا. فيعنى موت الإله هنا أنه لم يعد هناك قيمة عليا، لأن كل القيم أصبحت نسبية، لم تعد هناك حقيقة مهمة إلينا كجماعة نحارب أو نموت من أجلها.

عبر صموئيل موين في كتابه "اليوتوبيا الأخيرة" عن اضطراب القيم بأننا فقدنا إيماننا على أعتاب السرديات السياسية الكبرى. فالشيوعية باتت مرادفة تعنى الشمولية، والرأسمالية مرادفة للعيش الرغد، فالديمقراطية باتت فاسدة ولا تحظى بالشعبية، ورغم طغيان تيار المحافظ فالتقدميين بحر لا ساحل لم يرسو على شاطئ. فالأنموذج المثالي المتبقي هو حقوق الإنسان، فحقوق الإنسان مقدسة، فالرجل والمرأة يجب أن يتم إبقائهم على قد الحياة ويتم تسكينهم وإطعامهم مثل الحيوانات. مثل تلك السياسات التى بالكاد تبقى الإنسان حيًا من الصعب أن تقدم نموذج طموح سياسي تدب فيه الحيوية لازدهار الإنسانية. ولكن، فالحد الادنى المشترك من السياسية الاضطرارية هي ما تبقى على وجود المشروع العدمي . ما يخيف من العدمية هى صمتها، ففى ظل موت الإله، ونهاية الطرق المعهودة والنماذج المثالية السياسية، فإننا نقف. في "بين الماضى والمستقبل" قالت حنة أردنت "يجيبنا الصمت المشؤوم بلا، عندما نجروء على السؤال، ليس سؤال ما الذي نحاربه ولكن السؤال، ما الذي نحارب من أجله؟" فنحن نعلم ما الذي نقف ضده ونعارضه، الشمولية والفاشية، العنصرية، التمييز الجنساني، والوحشة والشعور بانعدام المعنى. ولكننا فى صمت في مواجهة تحدى ذلك السؤال: ما الذي نحارب من أجله؟ 

التجربة الجوهرية للوجود لم يتلفت إليها الدين أو السلطة أو الانماط التقليدية في المجتمع، ولكننا نختبرها بمفردنا، وهذا ما أسمته أردنت العزلة الحديثة. فاليوم، الكتل المنعزلة ينتشر بينها الشعور بانعدام المعنى "القنوط من العزلة". فكتبت عنه أدرنت في كتاب طبيعة الشمولية "أنه صامت، لا يسعهٌ أى نقاش". فأن تكون منعزلًا يعني أن تشعر بأنك منبوذًا ومهجورًا مقتلعًا من جذورك، بلا مأوى. وأن تختبر العالم كأنه مدمرًا والجزء الآخر منه بعيد المنال. ورغم أنه يمكن للإنسان أن يكون محاطًا بأناس كثيرين إلا أنه يشعر وكأنه منبوذًا ومنقطعًا عنهم.

اعتبرت حنا أردنت أن تحدى إعادة ترسيم عالمُ مشترك ذو معنى دون اللجوء إلي  تقاليد النوستالجيا هو جزء لا يتجزأ من تكريس مبدأ ثوري، والتأسيس الذاتى والحر لمؤسسات جديدة وذات معنى. فى حوار مع أدلبرت ريف في سنة 1970 أكدت على أن المبدأ الثورى يتطلب بالتحديد ما نفقده اليوم "مجموعة من الثوار الحقيقين" لديهم إجابة مقنعة على سؤال "ما الذي نحارب من أجله؟".

 

تحدث الثورات عند تخلخل الأنظمة بشكل ملموس، فتصبح المؤسسات السياسية والإجتماعية فاقدة لشرعيتها، ويخلق هذا وضعًا ثوريًا، حيث تكون القوة ملقاة في قارعة الطريق،  جاهزة لالتقاط، طيعة في يد من يمكنهم التعبير عن القيم والمُثل التى تستحق النضال في سبيلها. وتأتى فقط تلك اللحظة الثورية فقط عندما يقدم الثائرين منطق سليم جديد، رؤية للعالم المشترك تقف على أنقاض العالم القديم، فبدون رؤية ذات معنى لما يمكن أن يجمع الناس معًا، لن تكون هناك ثورة ممكنة.

كتبت أردنت في كتاب الوضع البشرى أنه علينا "التفتيش في الفضاء العلمانى عن معنى مستقلًا وجوهريًا لا يمكن للإله حتى أنه يغيره". فالبنسبة لأردنت بدون السياسة ليس هناك عالمًا مشتركًا، أو ليس هناك مجالًا عامًا بدون نوعٌ من التجاوز. يٌقصد بكلمة التجاوز حرفيًا التخطى، ولكن أردنت قصدت تجاوز فناء حيواتنا إلى "خلود دنيوىّ". يتوسط التجاوز إلى الخلود الدنيوي قلب ما تعنيه أردنت بالعيش سياسيًا، أن تعيش في العالم المشترك والعام.

 

يجاد ما يجمعنا ككل هي مهمة الأساسية للسياسية، أيضًا مع الحفاظ على التعددية، فتري أردنت أن السياسية غير ممكنة فى غياب الرغبة في الخلود الدنيوى كاشرطًا للتجاوز. وتضمن السياسية واقعًا مشتركًا من خلال وضع شرطًا للحصول على مساحة محايد تسمح لكل المواطنين أن يكونوا "مهتمين دائمًا بنفس الموضوعات" .  تتطلب السياسية مساحة مشتركة، حيث يتخاطب ويتفاعل المواطنون سويًا، وبفعلهم ذلك، يتجاوزون ذواتهم المستقلة إلي العالم المشترك. تعتمد بذلك السياسية على التجاوز، بظهور المنطق السليم "الذي يتلائم مع الواقع ككل حواسنا الخمسة الفردانية" . ينكشف لنا العالم الحقيقى نتيجة المنطق المشترك الذي يسمح للعالم أن يوجد بصورة محايدة وسط التعددية الفردانية.

والوقوف فى العالم تجاوزًا يعنى وجوب أن يكون العالم المشترك متجاوزًا  لما ما وراء رؤيتنا الشخصية وحياتنا الفانية القصيرة. وليكون هناك مشتركًا بين الجميع، يجب تجاوز المصالح والحيوات الفردانية. والسؤال الذى نواجهه اليوم، كيف في زمن الحداثة - عصر موت الاله وتدمير التقاليد - يمكن لنا أن نسعى إلى عالمٌ أبديّ  يستحق الذود عنه. فرأت أردنت أن مهمة السياسية هي السعي للأبدية  .والسياسة الثورية عليها الإجابة عن السؤال" ما الذي نناضل من أجله؟" بطريقة مثقلة بالمعنى ساعية للخلود. ولإننا مخلوقات ذو حياة قصيرة والموت بالنسبة إلينا يعنى النهاية، فالسعى إلى الخلود ذو معنى بالنسبة إلينا، فمأزق الإنسان هو: ما هو المغزى من  الحياة البشرية؟ فبعد أن نموت، لماذا كانت حياتنا مهمة؟ لماذا علينا أن نعانى من حظوظنا المقيتة في وجودنا المؤلم إذا كان ذلك كل ذلك لا زوال؟ كيف يمكن لنا أن نضمن لمن هو فان معنَا متجاوزًا لحياته المحدودة؟

قدمت أغلب الأديان إجابة عن تلك الأسئلة، ولكن ترى أردنت أن ما نحتاج إليه فى عصر ما بعد الأديان وما بعد الميتافيزيقا، هو "التفتيش فى عالم المادى عن معنى مستقلٌ جوهري، لا يمكن حتى لإله استبداله". فالبنسبة إلى أردنت لو كان الدين طريقة الإنسان لجعل الحياة ذات معنى بوصفها من صنع الإله وجزء من المنظومة الأخلاقية ككل، فالسياسة بالنسبة إليها طريقة  آخرى لإلزام الإنسان بتجاوز كلى ذي معنى.  والذي يميز الإنسان فى بشريته هو قدرته على التصرف وفقًا لمعنى محدد، وبتالى قدرته على تحقيق نوعٌ معين من الخلود.

لاحت فى الأفق الحاجة في عصر موت الإله لاستبدال المعنى المتجاوز الذى قدمه الدين بمعنى جوهريّ  متأصل، ينبثق من بين ثنايا النشاط السياسى، والتحدث والعمل حول  عالم المشترك. وطريقة بناء عالمٌ جوهرى ومتجاوز ذو معنى فهى من خلال قدرة الإنسان على التحدث والعمل. تعتقد أردنت فى قوة التحدث، فكتبت "أننا نصبح أكثر عدلًا وأكثر نُسكًا عند التفكير والحديث حول العدل والصلاح" ولكن لماذا ذلك؟

 

أولًا عند الحديث عن العالم، نجعل العالم واضحًا تعقيداته، يتألف العالم من أراءًا متعددة، حقائق لا متناهية، أفعالًأ لا يمكن التنبؤ بها. يروق لأردنت الاستشهاد بالسياسى الفرنسي بيير جوزيف برودون عاش في القرن التاسع عشر لتوضيح وجهة نظرها المتعلقة بفشل رغبة الإنسان بأن يتسيد العالم "تفوق خصوبة ما لم يٌتوقع حدوثة حصافة السياسيين" فنحن فى عالمٌ يستعصى على الاستنتاجات المنطقية.

 

 

ثانيًا، عندما نتحدث حول العالم، فإننا نصدر أحكامًا ونتأخذ قراراتًا بشأن العالم. وتقول أردنت أن تلك القرارات

"ربما في يوم ما يثبتُ أنها غير ملائمة" ثانيًا، عندما نتحدث حول العالم، فإننا نصدر أحكامًا ونتأخذ قراراتًا بشأن 

العالم. وتقول أردنت أن تلك القرارت"ربما في يوم ما يثبتُ أنها غير ملائمة" وحتى لو غاب الأتفاق حول طبيعة 

الكارثة وطريقة حلها، فعملية التحدث مع الآخرين بشأن كارثة ما نمر بها "ترسى أساسًا لاتفاق جديد بيننا فضلًا

 عن بين الامم الأرضية، مما يعنى بعد ذلك أن يٌصبح عرفًا أو قاعدة، والمعايير تجمد مرة أخرى فيما يسمى

 بالأخلاقى". نخلق عند تحدثنا مع بعضنا البعض نوعًا من الخبرات ونقاط الاتصال المشتركة التى ربما بمرور

 الوقت تصبح بناءًا للعالم المشترك الجديد، يمكن ينتج عنه أعرافًا جديدة، فبتالى ينتج نظامًا أخلاقيًا جديدًا. وإحتمالية بث روح جديدة في عالم أخلاقي مشترك جديد ليست فقط ممكنة ولكنها منتظرة، ولكنها تعتمد على الجرأة في

 الحديث بصراحة وبنفتاح على الآخر وتغييب التعنت الإيديولوجي. وبفعل ذلك سوف نفهم ما الذي نتشاركه وما

 الذي نختلف فيه، فبخلق عالم 

مشترك نستطيع البدء في عملية بث الوجود في العالم. "أنا شخصيًا لا أشك عندى فى أن الاضطراب الناتج عن

 مواجهة الواقع بدون مساعدة من خبرة سابقة، مثل تقاليد أو سلطة ستنتج فى النهاية نمطًا سوكليًا جديدًا" وهذا هو 

مصدر تفاؤل أردنت. فالطريقة الوحيدة للتعامل مع أزمة القيم بشكل بناء هى مواجهة الواقع والتحدث عنه بصدق 

مع الآخرين.

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات: